بقلم: السيد نبيل الحسني.
يرتكز الأمر بنصر الله في قوله (عليه السلام) لمالك: «وأَنْ يَنْصُرَ الله سُبْحَانَه بِقَلْبِه ويَدِه ولِسَانِه..» على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومما لا ريب فيه أنها من التكاليف الشرعية التي تناولها الفقهاء في كتبهم، ولكن كيف ينظر علماء الأخلاق إلى هذه الفريضة؟ ينطلق علماء الأخلاق في مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنشئهما النفسي في دراسة القوة الغضبية والشهوية وما تعلق بهما من إفراط وتفريط، مكونان بذلك جملة من الرذائل، ومنها التهاون والمداهنة بهذه الفريضة، (وهو ناشئ أمّا من ضعف النفس وصغرها، أو من الطمع المالي ممن يسامحه، فيكون من رذائل القوة الغضبية من جانب التفريط، أو من رذائل القوة الشهوية من جانب الإفراط.
وهو من المهلكات التي يعم فسادها وضرها، ويسري إلى معظم الناس أثرها وشرها. كيف؟ ولو طوى بساط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أضمحلت الديانة، وتعطلت النبوة، وعمت الضرة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وضاعت أحكام الدين، واَندرست آثار شريعة رب العالمين، وهلك العباد، وخربت البلاد)[1].
وهو ما يكشف عن العلة في جعل نصر الله بالقلب ضمن الأوامر الأولى التي وجهها أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر (رحمه الله)، وذلك أن سنام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقوامه هو نصر الله تعالى.
ولأجل ذلك ورد الذم الشديد في الآيات والأخبار في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمداهنة فيهما، قال الله سبحانه:
1- {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة، الآية: 66].
2- روى الحر العاملي (رحمه الله) بالإسناد عن محمد بن عرفة، أنه سمع الإمام الرضا (عليه السلام)، يقول: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله»[2].
3- ورويّ عن أبان بن عثمان، عن عبد الله بن محمد، عن أبي عبد الله [جعفر بن محمد الصادق] (عليهما السلام)، قال: «إنّ رجلا من خثعم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: يا رسول الله أخبرني ما أفضل الاسلام؟ قال: الإيمان بالله، قال: ثم ماذا قال: صلة الرحم، قال: ثم ماذا؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: فقال: الرجل: فأخبرني أي الاعمال أبغض إلى الله، قال: الشرك بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم قطيعة الرحم، قال: ثم ماذا؟ قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف»[3].
4- وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)، قال: «قال النبي صلى الله عليه وآله: كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال: نعم، وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا»[4]؟!
5- وبهذا الاسناد، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: «إن الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل: وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له؟ قال: الذي لا ينهى عن المنكر»[5].
6- وروى الثقفي عن شهر بن حوشب أن علياً (عليه السلام)، قال: «إنّه لم يهلك من كان قبلكم من الأمم إلا بحيث ما أتوا من المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار عمّهم الله بعقوبة، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق...»[6].
7- وروى الشيخ الطوسي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه، فهو ميت بين الأحياء» [7].
8- وروى الكليني عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نلقي أهل المعاصي بوجوه مكفهرة»[8].
9- وروى الشريف الرضي، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: «أَوَّلُ مَا تُغْلَبُونَ عَلَيْه مِنَ الْجِهَادِ، الْجِهَادُ بِأَيْدِيكُمْ ثُمَّ بِأَلْسِنَتِكُمْ ثُمَّ بِقُلُوبِكُمْ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ بِقَلْبِه مَعْرُوفاً ولَمْ يُنْكِرْ مُنْكَراً، قُلِبَ فَجُعِلَ أَعْلَاه أَسْفَلَه وأَسْفَلُه أَعْلَاه»[9].
وغيرها من الأحاديث والنصوص الشريفة التي زخرت بها كتب الحديث (ومن تأمل في الأخبار والآثار، وأطلع على التواريخ والسير وقصص الأمم السالفة والقرون الماضية، وما حدثت لهم من العقوبات، وضم ذلك إلى التجربة والمشاهدة في عصره، من ابتلاء الناس ببعض البلايا السماوية والأرضية، يعلم أن كل عقوبة سماوية وأرضية، من الطاعون والوباء، والقحط والغلاء، وحبس المياه والأمطار، وتسلط الظالمين والأشرار، ووقوع القتل والغارات، وحدوث الصواعق والزلازل، وأمثال ذلك، تكون مسبوقة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس)[10].
ومن ثمَّ يتضح لنا أهمية ترتيبه (عليه الصلاة والسلام) للأوامر وجعل هذا الأمر بالمرتبة الثالثة ، فيقول للأشتر: «وأَنْ يَنْصُرَ الله سُبْحَانَه بِقَلْبِه ويَدِه ولِسَانِه، فَإِنَّه جَلَّ اسْمُه قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَه وإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّه »[11].
الهوامش:
[1] جامع السعادات، النراقي: ج2 ص179.
[2] وسائل الشيعة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ج16 ص118.
[3] وسائل الشيعة: ج16 ص121.
[4] المصدر السابق.
[5] وسائل الشيعة: ج16 ص122.
[6] الغارات: ج1 79.
[7] تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، كتاب الأمر بالمعروف: ج6 ص 181.
[8] المصدر السابق.
[9] نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي: الحكمة 375 بشرح محمد عبده.
[10] جامع السعادات، النراقي: ج2 ص179 -182.
[6] لمزيد من الإطلاع، ينظر: فقه صناعة الإنسان، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رحمه الله)، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق، السيد نبيل الحسني، ص 119- 122/ مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة- العتبة الحسينية المقدسة، ط1- دار الوارث كربلاء المقدسة 2023م.