التربية في فكر علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما تبدو في نهج البلاغة: التربية البدنية

مقالات وبحوث

التربية في فكر علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما تبدو في نهج البلاغة: التربية البدنية

82 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 08-03-2025

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:
التربية البدنية:
يعطي الإسلام أهمية كبيرة جداً، لسلامة جسم الفرد، ويعتبرها من المميزات الرئيسية فيمن يناط به أي عمل، لاعتباره سلامة الأعضاء، وصحة جسم، أحد عنصري الكفاءة والقيادة، وفي قوله تعالى:

{إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}([1]) ما يوحي، بأن المؤهل لخدمة الناس يجب ان يتمتع بالكفاءة العلمية بمعناها الشامل بالإضافة إلى صحة الجسم وسالمة الاعضاء، لذلك فقد حرص الرسول صلى الله عليه وآله على إقران التربية الدنية بالتربية العلمية كما جاء في قوله صلى الله عليه وآله «حقُّ الولد على والده أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية»([2]) ويعد الفقهاء المسلمون سلامة أعضاء الجسم وحواسه من الشروط الرئيسية التي يجب أن تتوفر فيمن يرشح لمنصب الخلافة([3]). واذا ما رجعنا إلى نهج البلاغة لنستفتيه بشأن التربية البدنية، فسنجد ان كل ما ورد فيه من نصوص تكاد تعالج الموضوع من نواح ثلاث هي:

أـ ناحية وقائية: يرمي الإمام علي (عليه السلام) من ورائها إلى تبصير الناس بكيفية المحافظة على اجسامهم من تقلبات الجو كما في قوله «توقوا البرد في أوله، وتلقوه في آخره، فإنه يفعل في الأبدان كفعله في الأشجار، أوله يحرق وآخره يورق»([4]) وقد بنى استنتاجه ذاك ـ كما يتهيأ لنا ـ من خلال تأملاته الطبيعية أثناء مباشرته العمل في زراعة الأرض، ورؤيته عن كثب أثر التقلبات الجوية في الطبيعة.

ب ـ ناحية نفسية: وتعالج ما أصاب المجتمع من هزات عنيفة جراء تدفق الثروات، والتي أدت بالفرد إلى التكالب على الدنيا باقتناء الضياع وجمع الأموال»([5]) والنظر إلى ما في أيدي غيره من الناس([6])، مما أشاع الجشع والحسد والحقد كأمراض نفسية تزعزع كيان الفرد وتحطم معنوياته من الداخل، لعدم قدرته على نيل ما يتمناه، مما يحيل حياته إلى جحيم دائم، وعذاب مستمر، لابد من تأثيره على صحته وتصرفاته بتفشي السرقة([7]) والرشوة، وارجع الإمام علي عليه السلام كل ذلك إلى الحسد الذي نبه إلى خطورته في مواضع متعددة من النهج من ذلك قوله «العجب لغفلة الحساد عن سالمة الأجساد»([8]) وهو يرى في موضع آخر من النهج ان «صحة الجسد من قلة الحسد»([9]).

ج ـ ناحية عسكرية: وتتمثل وجهة نظر علي عليه السلام تلك، من تصور عميق لحالة الانهيار التي أشرف المجتمع عليها، جراء تمرغ أفراده في النعيم، ونبذهم الحياة الجادة وراء ظهورهم، بالتكالب على اقتناص الملذات، والجلوس حول الموائد المليئة بما لذ وطاب من المأكولات([10])، والتهرب بكل الوسائل من الدفاع عن البلاد في حالة الدعوة لذلك([11])، وفي نهج البلاغة من الأمثلة التي حاول علي عليه السلام من خلالها علاج هذه المشكلة بإثارة النخوة الإسلامية([12]) وإرجاع روح الفروسية العربية إلى نفوس شغلها حب الحياة عن أداء الواجب. وأوضح نص تربوي يبين فكر علي عليه السلام العسكري، المبني على تربية الاجسام على الخشونة وتعويدها حياة القوة المقرونة بجشوبة العيش قوله لمن عاب عليه أسلوبه في المأكل والملبس «ألا وإن الشجرة البرية اصلب عودا، والروائع الخضر أرق جلودا، والنباتات البدوية أقوى وقودا، وأبطأ خمودا»([13]) فالصورة تعني تعويد الابدان الخشونة حتى تتمكن من التأقلم مع كل وضع، وتستطيع مواجهة غائلات الزمن بكل رحابة صدر وتتصدى لإغراءات المادة بكل حزم، اما النعيم والترف فيحيل الأجسام إلى لليونة والترف، فتميل إلى الدعة والاتكالية «فتذهب خشونة البداوة، وتضعف العصبية والبسالة»([14]) فتكون النهاية الحتمية التي كان علي عليه السلام يحاول تجنيبها الأمة بتربية الأجيال تربية تعتمد البساطة أسلوباً، وهو وان لم يستطع التصدي للتيار الجارف، فقد ترك فكرا يمكننا عده زاداً تربوياً تنبني عليه أفكار الأجيال اللاحقة بما يتناسب وتطور الحياة.)([15]).

الهوامش:
([1]) البقرة/247.
([2]) المتقي الهندي ـ كنز العمال 6/443.
([3]) راجع ص 170-171 من هذا البحث.
([4]) حكم ـ 126.
([5]) راجع ص 101 وما بعدها من هذا البحث.
([6]) راجع خطب ـ 23 ـ فقرة 1.
([7]) راجع رسائل ـ 40، 41، 43.
([8]) حكم ـ 223.
([9]) حكم ـ 255.
([10]) راجع رسائل ـ 45 ـ الفقرة 1.
([11]) راجع على سبيل المثال خطب ـ 29.
([12]) راجع علي سبيل المثال ـ خطب 27، 34، 96، 109.
([13]) رسائل ـ 45 ـ الفقرة 3.
([14]) مقدمة ابن خلدون ص 176.
([15]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 462-465.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2411 Seconds