مباحث أخلاقية وتنموية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله). الحلقة (23): لماذا نهى أمير المؤمنين عن مشاورة البخيل وما تأثيره على النفس؟

مقالات وبحوث

مباحث أخلاقية وتنموية في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رحمه الله). الحلقة (23): لماذا نهى أمير المؤمنين عن مشاورة البخيل وما تأثيره على النفس؟

344 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 01-05-2025

بقلم: السيد نبيل الحسني.

يرشد النّص الشريف الوارد في العهد لمالك الأشتر: «ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ» إلى قضية أساس في بناء العلاقات الإنسانية، فضلا عن أثرها في اتخاذ القرار الصائب الذي يبتغي فيه الإنسان بلوغ الصلاح، ويتجنب عبره وقوع الفساد المناط بالإقدام على ما نوى، أي الفساد في ضياع الهدف ووقوع الخسائر عبر المشورة.
ومن ثمّ يعمد الإنسان إلى المشورة لهذا الغرض، أي طلب الرأي، وهو ما ظهر في كلام أهل اللغة ومفهوم المشورة ودلالتها، وهي:

1ـ معنى المشورة في اللغة.
تكشف كلمات أهل اللغة أن مفهوم المشورة هو من التلويح والإيماء باليد، فمعنى: (شاوَرَه مُشاوَرَة وشِوَاراً واسْتَشاره: طَلَب منه المَشُورَة، وأَشار الرجل يُشِيرُ إِشارَةً إِذا أَوْمَأَ بيديْه.
ويقال: شَوَّرْت إِليه بِيَدِي وأَشرت إِليه أَي لَوَّحْت إِليه وأَلَحْتُ أَيضاً.
وأَشارَ إِليه باليَدِ: أَوْمأَ، وأَشارَ عليه بالرَّأْيِ. وأَشار يُشِير إِذا ما وَجَّه الرَّأْي)[1].
أي: إنّ الأصل في المشورة مأخوذ من تلقي الإنسان التلويح باليد والإشارة إلى الوجهة الصحيحة أو التنبيه لأمر قد غفل عنه الإنسان فيتم إلفات انتباهه لغرض التصحيح في القرار أو لتجنب الوقوع في الضرر.

2ـ مفهوم المشورة ودلالتها.
ومن ثم يكمن مفهوم المشورة في تحديد من يقوم بمعونة الإنسان في أخذ القرار، وعليه يلزم تحديد صفات المستشار وأهليته للمعونة في اتخاذ القرار كي لا ينقلب الأمر على الإنسان فتكون الإشارة إلى الطريق المليء بالصعاب والمخاطر فيعود بالضرر أو الهلاك بالإنسان، وأقل ما يترتب عليه ضياع الهدف.
ولذا: نجد النّص الشريف يجعل جملة من النواهي في عملية المشورة ويبين صفات الشخص الذي نحتاج إلى مشورته وأخذ رأيه، وهم على النحو الآتي:

3 ـ علة النهي في استشارة البخيل.
يكشف النص الشريف عن الحكمة في النهي عن استشارة البخيل ويُظهر العلة في أمرين وهما: الأول: أنه يَعْدلَ بالإنسان عن الفضل؛ والثاني: أنه يَعْدَ بالفقر.
وتكمن الحكمة في ذلك في كشفها عن أثار رذيلة البخل في النفس واَنعكساتها على تصرفات الإنسان وسلوكه، أي تجلي مصاديق الرذيلة في الخارج، ويتضح ذلك عِبْر معرفة مكامن هذه الرذيلة في النفس ومنشئها هو حب المال، (وسبب حب المال: أما حب الشهوات التي يتوقف الوصول إليها على المال مع طول الأمل إذ لو لم يكن له طول أمل وعلم أنه يموت بعد أيام قلائل ربما لم يبخل بماله.

أو ادخاره وإبقاؤه لأولاده، فإنه يقدر بقاءهم كبقاء نفسه، فيمسك المال لأجلهم، أو حبه عين المال من حيث إنه مال فيحب، فإن بعض الناس من المشايخ والمعمرين يكون له من المال ما يكفيه لغاية ما يتصور من بقية عمره وتزيد مع أموال كثيرة، ولا ولد له ليحتاط لأجله، مع ذلك لا تسمح نفسه بإخراج مثل الزكاة ومداواة نفسه عند المرض، بل هو محب للدنانير، عاشق لها، يتلذذ بوجودها في يده، مع علمه بأنه عن قريب يموت، فتضيع أو
تأخذها أعداؤه، ومع ذلك لا تسمح نفسه بأن يأكل منها أو يتصدق ببعضها.

وهذا مرض عسر العلاج، ولاسيما في كبر السن، إذ حينئذ يكون المرض مزمنا والطبيعة المدافعة له قاصرة والبدن ضعيفا.
ومثله: مثل من عشق شخصا فأحب رسوله، ثم نسي محبوبه واشتغل برسوله فإن الدنانير رسول مبلغ إلى الحاجات. وهي محبوبة من هذه الحيثية، لا من حيث إنها دنانير، فمن نسي الحاجات صارت الدنانير محبوبة عنده في نفسها، فهو في غاية الضلالة والخسران، بل من رأى بين الفاضل منها عن قدر الحاجة وبين الحجر فرقا، فهو في غاية الجهل)[2].
ومن هنا، يكون البخيل في الحالة الأولى: مانعاً من الوصول إلى فضيلة الجود التي هي نقيض البخل فيعدل بمن يستشيره عن البذل بمجمل أنواعه، كالجود بالمال وأنفاقه أو الجود بالجاه وبذله، أو الجود بالعلم وحبسه أو الجود بالسعي في قضاء الحوائج ومنعه وتعسيره، وكل ذلك يقود الإنسان إلى العدول عن بلوغ رتبة الفضل.
وفي الحالة الثانية: فأن البخيل يمنع من البذل والإنفاق في جميع موارده في الواجبات والمستحبات، فأما في الواجبات: فأنه يسوّف للإنسان بتأخير إخراج الزكاة، والأخماس، وأداء فريضة الحج، والنذر، والكفارات، وغيرها؛ مما يؤدي إلى اَنتهاك الشريعة والوقوع في الذنوب والآثام.
وأما المستحبات: فكالصدقات، والموقوفات، والسكنى، والعارية، وغيرها؛ فيما ينتفع منه الناس من أوجه البِر المختلفة، مما يؤدي إلى الوقوع في الحرمان من نيل الآجر والثواب، وحب الخير والأهل والناس؛ والعلة فيه: أنّ البخيل يَعْدُ بالفقر فيمنع من كل ذلك.

4 ـ مما ورد في ذم رذيلة البخل.
ولذا: ورد في ذمه الكثير من الآيات والأخبار، قال الله سبحانه:
1 ـ {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].
وقال الله تعالى:
2 ـ {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 39].

3 ـ وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» [3].

4 ـ وقال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام):
«وليكن نظركم عبرا، وصمتكم فكرا، وقولكم ذكرا، وطبيعتكم السخاء، فإنه لا يدخل الجنة بخيل، ولا يدخل النار سخي»[4].

5 ـ وقال (صلى الله عليه وآله):
«البخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، بعيد من الجنة، قريب من النار؛ وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل، وأدوى الداء البخل».

6 ـ وقال الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام):
«الموبقات ثلاث: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه»[5].

7 ـ وقال (صلى الله عليه وآله):
«إنّ الله يبغض الشيخ الزاني، والغني الظلوم، والفقير المختال، والسائل الملحف، ويحبط أجر المعطي المنان، ويمقت البذيخ الجري الكذّاب»[6].

8 ـ وقال (صلى الله عليه وآله):
«لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا»[7].
وغيرها من النصوص الشريفة، وحسبك منها أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يستعيذ بالله من البخل، فيدعوا الله قائلاً:
«اللّهم إني أعوذ بك من البخل، والكسل، وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات»[8].
وبما مرَّ يتضح لنا العلة في نهيه (عليه الصلاة والسلام) من مشورة البخيل[9].

الهوامش:
[1] لسان العرب، ابن منظور، مادة (شور): ج4 ص437
[2] جامع السعادات، النراقي: ج2 ص94
[3] وسائل الشيعة، باب: تحريم البخل والشح بالزكاة: ج9ص42
[4] تحف العقول، ابن شعبة الحراني: ص390
[5] بحار الأنوار، المجلسي: ج70 ص302
[6] تحف العقول، ابن شعبة الحراني: ص42
[7] الخصال، الشيخ الصدوق: ص76
[8] صحيح مسلم، باب التعوذ من سوء القضاء: ج8 ص76
[9] لمزيد من الاطلاع، ينظر: فقه صناعة الإنسان، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الاشتر (رحمه الله)، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق، السيد نبيل الحسني، ص229- 232/ مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1 -  دار الوارث كربلاء المقدسة 2023م

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3356 Seconds