بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
قال عليه السلام:
يَا أَبَا ذَرٌ، إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ، فَأَرْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ، إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ، فَأَتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ، وَأَهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ؛ فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مِنَعْتَهُمْ، وَمَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ! وَسَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غداً، وَالْأَكْثَرُ حُمَّداً، وَلَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً! لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ، وَلَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ، فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ، وَلَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأُمِنُوكَ[1] .
شرح الألفاظ الغريبة:
الربذة: - بالتحريك - موضع على قرب من المدينة المنورة فيه قبر أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، والذي أخرجه إليه عثمان بن عفان: قَرَضْتَ مِنها: قطعت منها جزءاً واختصصت به نفسك[2].
الشرح:
أبو ذر: اسمه جندب بن جنادة، وهو من بني غفار قبيلة من كنانة، وأسلم بمكة ولم يشهد بدراً ولا الخندق لأنه حين أسلم رجع إلى بلاد قومه فأقام حتى مضت [قامت خ ل] هذه المشاهد.
ثم قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وآله وكان يتولى علياً وأهل بيته عليهم السلام، وهو الذي قال الرسول صلى الله عليه وآله في حقه: ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر[3].
وروى ابن المعمر عنه قال: رأيت أبا ذر آخذاً بحلقة باب الكعبة وهو يقول: أنا أبو ذر الغفاري، فمن لم يعرفني فأنا جندب صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق[4] .
وكان قد أخرجه عثمان إلى الربدة، وهي موضع قريب إلى المدينة، واختلف في سبب إخراجه فروي عن زيد بن وهب أنه قال: قلت لأبي ذر رحمة الله عليه وهو بالربذة: ما أنزلك هذا المنزل ؟ قال : أخبرك أني كنت بالشام في أيام معاوية فذكرت قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله}[5] الآية فقال معاوية هذه نزلت في أهل الكتاب ، قلت : بل فينا وفيهم ، فكتب معاوية إلى عثمان يشكو مني في ذلك، فكتب إلي أن أقدم عليَّ فقدمت عليه فانتال الناس علي كأنهم لم يعرفوني فشكوت إلى عثمان فخيرني فقال: أنزل حيث شئت فنزلت الربذة. وهذا قول من نزّه عثمان عن ظلم أبي ذرّ ونفيه، إذ كان خروجه إلى الربذة باختياره، وقيل: بل كان يغلظ القول في إنكار ما يراه منكراً وفي حق عثمان، ويقول: لم تبق أصحاب محمد على ما عهد، وينفر بهذا القول وأمثاله عنه. فأخرجه لذلك، وخطابه عليه السلام لأبي ذر أليق بالقول الثاني.
فقوله: «إنك غضبت لله»: شهادة له أن إنكاره لما ينكره إنما يقصد به وجه الله تعالى.
وقوله: «إن القوم خافوك على دنياهم»: أي على أمر الخلافة بالتنفير عنهم. وخفتهم على دينك باجتناب موافقتهم وأخذ عطائهم على غير السنة.
وقوله: «فاترك ...» إلى قوله: «منعوك»: أي اترك لهم دنياهم وانج بدينك فما أحوجهم إلى دينك وأغناك عن دنياهم.
وقوله: «ستعلم من الرابح غداً والأكثر حسداً»: أشار به إلى يوم القيامة، وظاهر كون تارك الدنيا أربح من المقبل عليها وأكثرية الحسد من لواحق أكثرية الربح.
وقوله: «ولو أن السماوات ....» إلى قوله: «مخرجاً»: بشارة له بخلاصة مما هو فيه من ضيق الحال بسبب الإخراج، وشرط في ذلك تقوى الله إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [6].
قال ابن عباس: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله: ومن يتق الله يجعل له مخرجاً، قال: من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت وشدائد يوم القيامة وظاهر كون التقوى عند استشعارها سبباً قاطعاً لطمع المتقي من الدنيا وقيناتها، وهو مستلزم لراجيه من مجاذبة النفس الأمارة بالسوء عن الوقوع في شبهات الدنيا، وهي في استلزام الخلاص من غمرات الموت وشدائد يوم القيامة أظهر.
وكنى عليه السلام بالغاية المذكورة وهي رتق السماوات والأرض على العبد عن غاية الشدة مبالغة ليتبين فضل التقوى، ثم أمره بالاستيناس بالحق وحده، والاستيحاش من الباطل وحده، وأكد الحصر في الموضعين بقوله: وحده، تنفيراً عن أن يستوحش من الحق ما فيترك وينفر عنه وإن صعب وشق على النفس، أو يستأنس بباطل ما فيفعل أو يسكت عليه وإن لذ لها.
ونبّه على عله بغضهم وإخافتهم له وهو عدم مشاركتهم في دنياهم والانفراد بالإنكار وغلظة القول عليهم، وكنى بالقرض من الدنيا عن الأخذ. وبالله التوفيق[7] )([8]).
الهوامش:
[1] نهج البلاغة لصبحي صالح: ۱۸۸ / من كلام له عليه السلام رقم ۱۳۰، ونهج البلاغة للشيخ العطار: ٢٥٠ من كلام له عليه السلام رقم ۱۳۰، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم ٣: ١٤٥ / من كلام له عليه السلام رقم ۱۲۹، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده ١: ٢٦٦ / من كلام له عليه السلام لأبي ذر لما خرج إلى الريدة.
[2] شرح الألفاظ الغريبة: 623.
[3] علل الشرايع ١: ١٧٦.
[4] كتاب المعارف لابن قتيبة : ٢٥٢.
[5] التوبة: ٣٤.
[6] الطلاق: ۲.
[7] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 145-147/ شرح كلام له عليه السلام رقم 129.
([8]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 300-304.