بقلم: السيد نبيل الحسني.
في المورد الثاني من موارد تحديد صفات المستشار، ينتقل أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) إلى صفة آخرى، وهي النهي عن مشورة الجبان، فيقول لمالك: «ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ...جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ».
وللإحاطة بدلالة النّص الشريف ومعرفة العلّة في النهي، فضلا عن بيان تأثيره على النفس، فلا بد من النقاط الآتية:
1 ـ مفهوم الجبن ومعناه.
جاء في بيان معنى الجبن عند أهل اللغة، أنّ «الجَبانُ من الرِّجالِ: الذي يَهاب التقدُّمَ على كلّ شيء، لَيْلاً كان أَو نهاراً.
وقال سيبويه: والجمع جُبَناء، شَبَّهوه بفَعِيل لأَنه مثلُه في العِدَّة والزيادة، وتكرّر في الحديث - النبوي - ذِكر الجُبْن والجَبان، وهو ضِدُّ الشَّجاعة والشُّجاع» [1].
2ـ دلالة الجبن العرفية وتأثيرها النفسي.
ومما يدل على المعنى العرفي المتجذّر في المجتمع العربي والإسلامي هو استخدام العرب للمفردة، ولاسيما في الشواهد التاريخية المصاحبة للسيرة النبوية الشريفة، وبالأخص ما وقع في فتح خيبر في السنة السابعة للهجرة النبوية، فقد أخرج ابن أبي شيبة الكوفي(المتوفى سنة 235هـ)، عن بريدة الأنصاري الأسلمي، عن أبيه، قال:
«لمّا نزل رسول الله [صلى الله عليه وآله] بحضرة خيبر، فزع أهل خيبر، وقالوا: جاء محمد في أهل يثرب، قال: فبعث رسول الله [صلى الله عليه وآله] عمر بن الخطاب بالناس فلقي أهل خيبر، فردوه وكشفوه هو وأصحابه، فرجعوا إلى رسول الله [صلى الله عليه وآله] يُجّبْنُ أصحابه ويُجّبْنهُ أصحابه، قال: فقال رسول الله [صلى الله عليه وآله]:
لأعطين اللواء غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
قال: فلما كان الغد تصادر لها أبو بكر وعمر، قال: فدعا عليا [عليه السلام] وهو يومئذ أرمد، فتفل في عينه، وأعطاه اللواء، قال: فانطلق بالناس، قال: فلقي أهل خيبر، ولقي مرحبا الخيبري وإذا هو يرتجز، ويقول:
قد عملت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الليوث أقبلت تلهب أطعن أحيانا وحينا أضرب
قال: فالتقى هو وعلي [عليه السلام] فضربه ضربة على هامته بالسيف، عض السيف منها بالأضراس، وسمع صوت ضربته أهل العسكر، قال: فما تتام آخر الناس حتى فتح لأولهم»[2].
ومن ثمّ يرشد النص التاريخي إلى ظهور المعنى العرفي لرذيلة الجبن ورسوخ دلالته في المجتمع.
3 ـ مرتبته في سلّم الرذائل الأخلاقية وخطورته على الإنسان.
إنّ الجبن من أصول رذائل القوة الغضبية وأحد طرفيها، أي تفريط النفس في قوة الغضب عند موارد الحاجة إليه، وأنه يدعوا إلى التوهين والضعف في خوض الأمور، وإيقاع النّفس في الذّل والمهانة، وتوهين المقدّسات، وتضييع الواجبات.
وقد عرّفهُ علماء الأخلاق بأنه: «سكون النّفس عن الحركة إلى الانتقام أو غيره، مع كونها أوّلى؛ والغضب إفراط في تلك الحركة، فله ضدية للغضب باعتبار، وللتهور باعتبار آخر. وعلى الاعتبارين هو في طرف التفريط من المهلكات العظيمة.
ويلزمه من الأعراض الذميمة: مهانة النفس، والذلة، وسوء العيش، وطمع الناس فيما يملكه، وقلة ثباته في الأمور، والكسل، وحب الراحة، وهو يوجب الحرمان عن السعادات بأسرها وتمكين الظالمين من الظلم عليه، وتحمله للفضائح في نفسه وأهله، واستماع القبائح من الشتم والقذف، وعدم مبالاته بما يوجب الفضيحة والعار، وتعطيل مقاصده ومهماته»[3].
4 ـ علّة النهي في استشارة الجبان ولاسيما في موارد القيادة.
إنَّ مشورة الجبان تأخذ بالمستشير إلى الضعف في الإقدام على الأمور ولاسيما الأمور التي تتوقف عليها مصلحة الدين والدنيا، وتتعاظم الأمور كلما تحمل الإنسان مهام الإشراف والإدارة والتولية لشؤون الناس سواء في مواقع السلطة أو العمل أو الأسرة.
ولذا:
نهى أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) مالك الاشتر عن استشارة الجبان، فقال:
«ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ..جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ».
بل يتضح من النهي في النّص الشريف أن الجبان يقوم بتضعيف الإنسان عن مطلق الأمور الخاصة والعامة مما يؤدي إلى التراجع في تطوير القدرات الشخصية، ويوقف العملية التنموية للذات، ومن ثمَّ فتأثيره على الإنسان لا ينحصر بالحياة الدنيا وإنمّا في الآخرة[4].
الهوامش:
[1] لسان العرب، ابن منظور: ج13 ص84
[2] المصنف، ابن أبي شيبة: ج8 ص521
[3] جامع السعادات، النراقي: ج1 ص193
[4] لمزيد من الاطلاع، ينظر : فقه صناعة الإنسان ، الأوامر والنواهي في عهد الإمام علي(عليه السلام) لمالك الاشتر(رحمه الله) ، دراسة في ضوء أصول الفقه والأخلاق ، السيد نبيل الحسني، ص235- 238/ مع بعض الإضافة، إصدار: مؤسسة علوم نهج البلاغة - العتبة الحسينية المقدسة ، ط 1 - دار الوارث كربلاء المقدسة 2023م