عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
يُعدُّ الكلام الوسيلة الأوسع للتواصل بين البشر على مرِّ العصور، وهو الأداة التي يعبِّر بها الإنسان عن حاجاته، ولمَّا كان الإنسان اجتماعيًّا بطبعه، أي يتوق إلى العيش على شكل تجمعاتٍ مع بني جنسه كان لا بدَّ من وجود آلة يتواصل بها مع من يُشاركه في تجمعاته، وهذه الآلة هي اللسان الفاعل الأكبر في انتاج الكلام، ونحن هنا لا نقصد بالكلام بمفهومه الضيِّق المعتمد على ما يصدره اللسان من أصواتٍ تنتظم على شكل لغة يتواصل بها الإنسان؛ بل نقصد به كلَّ رمز وإشارة يمكن أن يتواصل بها الإنسان، سواء أكان ذلك شفاهًا أو كتابةً .
ومع هذه الأهميَّة القصوى التي يتمتَّع بها الكلام في حياة البشر إلَّا أنَّه في بعض الأحيان يكون محفوفًا بالمخاطر والمزالق، وقد ذكر التاريخ مصائب جمَّة حصلت بسبب كلماتٍ تفوَّه بها بعض الأشخاص، وليس الواقع المعاش ببعيد عن تجاربٍ كثيرةٍ راح ضحيتها أناس لهم ما لهم من الشأن والمركز بسبب هفوات ألسنتهم، ومن هنا عمدت الشرائع السماوية إلى التوصية بتهذيب الألسن، والتأني باختيار الكلمات قبل اطلاقها، ولم يكن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بدعًا من المشاريع الإلهيَّة في تهذيب النفس الإنسانية وتربيتها، وكان من ضمن ما تضمنه برنامجه التربوي الأخلاقي إرساء الأسس الرصينة في تربية اللسان لدى الإنسان، وقد حفل نهج البلاغة بمقولاتٍ زاخرة عن اللسان والكلام، وممَّا جاء فيه: ((الِّلسَانُ سَبُعٌ، إِنْ خُلِّيَ عَنْهُ عَقَرَ))([1])، فأمير المؤمنين (عليه السلام) يُشير إلى وجوب تقييد اللسان عن الخوض في كلِّ شيء؛ لأنَّه سبع يجرح من حوله إذا ما أُطلق سراحه، وهذا يعني أنَّ الحكمة تكمن في تقييد اللسان، وهذا بدوره يؤدِّي إلى نقص الكلام وقلَّته، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) صراحة إلى هذا المعنى بقوله: ((إِذَا تَمَّ الْعَقْلُ نَقَصَ الْكَلاَمُ))([2])، فتمام العقل مرهون بقلَّة الكلام، ويبدو أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أوضح الحكمة من ذلك في قول آخر فحواه: ((الْكَلاَمُ فِي وَثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وَثَاقِهِ، فَاخْزُنْ لِسَانَكَ كَمَا تَخْزُنُ ذَهَبَكَ وَوَرِقَكَ، فَرُبَّ كَلِمَة سَلَبَتْ نِعْمَةً وَجَلَبَتْ نِقْمَةً((([3])، فالإنسان يجب عليه أن يُشدِّد الحراسة على لسانه كما يحرس ذهبه وأمواله؛ بل إنَّ قيمة اللسان الصالح أعلى شأنًا من الثروات مهما كانت، وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أَلاَ وَإِنَّ اللِّسَانَ الصَّالِحَ يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُورِثُهُ مَنْ لاَ يَحْمَدُه))([4]) وعلى هذا الأساس يجب على الإنسان أن يولي لسانه اهتمامًا بالغًا؛ لأنَّه يمثل ثروةً لا تُقدَّر بثمن فيما لو أحسن صيانته، وصيانته تكون في منعه عن الخوض في الباطل في كلِّ صنوفه، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ. فسئل(عليه السلام) عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثمّ قال: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ))([5])، فالسمع بالواسطة عن الآخرين لا يورث علمًا بحقيقة الأشياء في بعض الأحيان، كما لو كانت الواسطة غير مؤهلة في نقل الحقيقة، ولذلك يؤكِّد أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا المعنى بقوله: ((لاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ، بَلْ لاَ تَقُلْ كُلَّ مَا تَعْلَمُ، فَإِنَّ اللهَ سبحانه قد فَرَضَ عَلَى جَوَارِحِكَ كُلِّهَا فَرَائِضَ يَحْتَجُّ بِهَا عَلَيْكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))([6])، ثمَّ يؤكِّد هذا المعنى بقولٍ آخر فيقول: ((وَدَعِ الْقَوْلَ فِيَما لاَ تَعْرِفُ، وَالْخِطَابَ فِيَما لَمْ تُكَلَّفْ))([7])، وهذه الأقوال تشير إلى ربط الكلام بالعلم وتقيده بالمعرفة، وتمنع منه في حال الجهل، وعليه يجب أن لا نفهم نتيجة ما سبق أنَّ الكلام مذموم والصَّمت مندوب؛ بل الأمر أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يهذِّب اللسان ليكون ناتجه من الكلام في موضعه فاعلًا ومؤثِّرًا، ولو صمت الإنسان في مقام الكلام لعيب عليه ذلك وكان نقصًا عليه لا كمالًا، ومن هنا يجب علينا أن نفرِّق بين المقامات، فهناك من المقامات ما يتطلَّب الصمت، وهناك ما يتطلَّب الجهر بالقول وإطلاق اللسان بالحق ليدحض الباطل، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ذلك: ((لاَ خَيْرَ فِي الصَّمْتِ عَنِ الْحُكْمِ، كَمَا أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي الْقوْلِ بِالْجَهْلِ((([8])، وقوله أيضًا: ((رُبَّ قَوْل أَنْفَذُ مِنْ صَوْل))([9])؛ بل إنَّ الكلام يُعدُّ هوية الإنسان في الحياة، إذ به يُعرف حجمه وشخصيته، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ((([10]) .
إذن فاللسان ذو حدَّين وعلى الإنسان أن يُحسن التعامل معه، فيحبسه في مواضع ويطلقه في أخرى، وعليه أن يكون دقيقًا في تحديد تلك الظروف...
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين..
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 478 .
([2]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 480 .
([3]) المصدر نفسه: 543 .
([4]) المصدر نفسه: 177 .
([5]) المصدر نفسه: 198 .
([6]) المصدر نفسه: 544 .
([7]) المصدر نفسه: 392 .
([8]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 502 .
([9]) المصدر نفسه: 545 .
([10]) المصدر نفسه .