خُطَى الخزاعي
إنَّ الهداية بوصفها غاية مستهدفة من خلق الخلق، قد حظيت بنصيب وافر من الاهتمام الإلهي على كلا المستويين، المستوى النظري العام، إذ حفلت العديد من الآيات المباركة بذكرها وأهميتها، وحصر النجاة بها، وعلى المستوى التعريفي التطبيقي، إذ هيئ تبارك وتعالى مقدمات ووسائط تحصيلها على النحو الأكمل والأتم، من هُداة قد بينوا المراد الإلهي منها، حاصرين مفهومها بالوجه المقصود، ومحددين طريقها الموصلة، لتأتي النوبة بعد مرحلة البيان والعلم للعوارض التي من شأنها الحيلولة دون تحققها في الناس، ومن أوفر تلك العوارض نصيبًا، وأخطرها أثرًا، الشبهات المتبناة في الطرح والترويج لها من لدن أهل الغواية والتضليل، والغاية أن يعدلوا بأهل الاغترار من الخلق عن سلوك طريق الهدى، نحو سبل الضلال، والشبهة تعني: (الِالْتِبَاسُ)([1])، وقد تعرض أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) إلى الشبهة بوصفها دركة إلى الضلال، وإلى سبيل النجاة منها، غير مرة في كلامه الشريف معطيًا الموضوع مزيد عناية واهتمام، ومن موارد ذلك عند بيانه العلة في تسميتها إذ قال: (وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لاِنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ، فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِينُ، وَدَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى، وَأَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمْ الضَّلالُ، وَدَلِيلُهُمُ الْعَمْى)([2])، مبينًا (صلوات الله وسلامه عليه)، أنَّ هناك شيئًا من الالتباس والخلط يعرض على الأمور بحيث يُرى في ظاهرها صورة حق، سرعان ما تنجلي عن فساد وضلال عند أولياء الله تعالى، إذ سيقابلوها باليقين، والثوابت الحقة، المعلومة والمتقدمة في البيان، فتتهاوى تلك المعترضات غير مؤثرة على سير المهتدين إلى الله تبارك وتعالى، وسيغتر بها أهل الضلال متوقفين عند حدود ظاهرها، معطلين وسائل الكشف عندهم، فلا تزيدهم إلَّا عمىً، وجهالةً، وبعدًا عن الطريق، وقد تعرض (صلوات الله وسلامه عليه) لها في مورد آخر شارحًا تركيبتها التي هي منشأ اللبس فيها، ومحدِّدًا الفئة المستثناة من شراكها، فقال: (إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ، وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتابُ اللهِ، وَيَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً، عَلَى غَيْرِ دِينِ اللهِ، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، وَلَوْ أَنَّ الْحقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ البَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ; وَلكِن يُؤْخَذُ مِنْ هذَا ضِغْثٌ، وَمِنْ هذَا ضِغْثٌ، فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَيَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْحُسْنَى)([3])، فالفتن بوصفها محصلات إنَّما يُفتل فتيلها، وتنقدحُ شرارتها، مع مسايرة الأهواء الضالة، والأحكام المبتدعة الأجنبية عن الدين، والأصل في تلك الأهواء، والأحكام هو الشبهات، التي تجعل الباطل مشوبًا بمزاج من الحق، وتخلط الحق ملبسةً إياه بالباطل، فلا الحق يعود صريحًا، ولا الباطل يكون مشخصًا، والمحصلة أضغاث ممتزجة من هذا وذاك، يجد الشيطان عندها غايته، إذ يستولي على أوليائه المغترين بها، المستجيبين لغوايتها، مستثنيًا (صلوات الله وسلامه عليه)، من مصائده أولئك الذين قد تنورت قلوبهم بنور اليقين، فهم في منأى عن ولايته، ومأمن من أثر شبهاته، ثُمَّ يؤكِّد في موضع آخر، وبمزيد عناية على خصوصية العلم والنظر بعد الاستعانة بالله في الوقاية منها، في معرض وصيةٍ له للإمام الحسن (صلوات الله وسلامه عليهما) إذ قال: (... فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم، لا بتورط الشبهات وعلو الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك وترك كل شائبة أولجتك في شبهة، أو أسلمتك إلى ضلالة، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع، وتم رأيك فاجتمع، وكان همك في ذلك هما واحدا فانظر فيما فسرت لك، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك، وفراغ نظرك وفكرك فاعلم أنك إنما تخبط العشواء، وتتورط الظلماء، وليس طالب الدين من خبط أو خلط، والامساك عن ذلك أمثل)([4])، فلا منزلة بين الحق والباطل، وكل ما كان دون الحق فهو باطل وإن خالطه، وإن لم يتحصَّل اليقين مقابل الشبهة فالنأي بالنفس عن مثل ذلك أمثل وأصوب، وكلماته هذه (صلوات الله وسلامه عليه)، مفاتيح معالجة، بها يستعان على داء الشبهات التي لم يخل منه زمن من الأزمنة؛ بل هو في سلم صعود ومرور الزمن، متناسب في تنوعه وكثرته طردًا وغايات أهل الضلال، وما يمتلكون من وسائل وامكانات، وعصرنا المعاش، مصداق أجلى في شيوع الشبهة، ودخولها في تفاصيل عدة، وأثرها في العصف بالناس جهلًا بلا هوادة، وليس كالعلم والمعرفة كما وجَّه (صلوات الله وسلامه عليه) حائلٌ يحول دون الانزلاق ومزالقها؛ بل كشفها والتحذير منها أو الاحتياط والنأي بالنَّفس عن خصوص ما لم يتميز وجه الخطأ فيها من وجه الصواب، فنعوذ بالله تعالى ورسوله وأهل بيته مستجيرين من شراك الشبهات، ونسأله المعرفة واليقين درعًا يحول دون إضلالها.
الهوامش:
[1] مختار الصحاح، الرازي (المتوفى 666هـ):161.
[2] نهج البلاغة، تحقيق، شرح : الشيخ محمد عبده : 1/89-90.
[3] نهج البلاغة، تحقيق، شرح : الشيخ محمد عبده: 1/99-100.
[4] نهج البلاغة، تحقيق، شرح : الشيخ محمد عبده: 3/42-43.