خُطَى الخُزَاعي
ما بين حادثتي الدار والغدير، حدِّي الرسالة المحمدية الخاتمة انطلاقةً وختامًا، انتظمت سلسلة من الإخبارات والوقائع المفصِّلة للولاية قوام الدين في البداية، والسائرة باتجاه تمتين الحجة بأوثق ما يكون في النهاية، معبِّدة بكلها الطريق أمام وصول الحقيقة إلى الناس على اختلاف دوائرهم حتى مع شدة التعتيم والتشكيك، إذ إنَّ من الصعوبة بمكان أن تُنكر كل تلك الوقائع، وتُؤوَل الأحاديث بعيدًا عن مرادها في كل مرة، فأُريد من تنوع الحدث ووحدة القصد فيه تأمين إيصال الدين الحق للناس وهدايتهم من جهات عدة وبإغناء ترجمةً للطفه تعالى.
وتُعَدُّ حادثة المباهلة من الأحداث المُبرَزَة في مسيرة الرسالة التي كشفت عن أكبر فضيلة للمولى أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) آخذة بأعناق الناس صوب ولايته بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، مؤكِّدًا ذلك الإمام الرضا (صلوات الله وسلامه عليه) في معرض رده على المأمون العباسي بعد سؤال الأخير عن أكبر فضيلة له دلَّ عليها القرآن فقال (صلوات الله وسلامه عليه): ((فضيلة في المباهلة، قال الله جلَّ جلاله: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} (آل عمران:61)، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله الحسن والحسين (عليهما السلام) فكانا ابنيه، ودعا فاطمة (عليها السلام) فكانت في هذا الموضع نساءَه، ودعا أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان نفسه بحكم الله (عزَّ وجلَّ)، وقد ثبت أنَّه ليس أحد من خلق الله تعالى أجلَّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأفضل، فواجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله بحكم الله (عزَّ وجلَّ)، فقال له المأمون: أليس قد ذكر الله الأبناء بلفظ الجمع وإنَّما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابنيه خاصة؟ وذكر النساء بلفظ الجمع وإنَّما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابنته وحدها؟ فألا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره، فلا يكون لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما ذكرت من الفضل، فقال له الرضا (عليه السلام): ليس يصح ما ذكرت؛ وذلك أنَّ الداعي إنَّما يكون داعيًا لغيره كما أن الآمر آمر لغيره، ولا يصح أن يكون داعيًا لنفسه في الحقيقة كما لا يكون آمرًا لها في الحقيقة، وإذا لم يدع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المباهلة رجلًا إلَّا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد ثبت أنَّه نفسه التي عناها الله سبحانه في كتابه، وجعل حكمه ذلك في تنزيله، فقال المأمون: إذا ورد الجواب سقط السؤال))([1])، مثّبِتًا له تعالى الرتبة الأعلى؛ إذ لا مقام بعد مقام نفس النبي، مفسَّرًا بفعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أخرجه مع الزهراء والحسنين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) متعدِّيًّا كل من حوله من الرجال والنساء والأبناء على كثرتهم، مختصِرًا أشخاص واجهة هذا الدين والشهداء على أحقيته على من أخرجهم دون سواهم، مثقِّفًا لأدوارهم من بعده، حاصرًا بهم مهمة حفظ الدين وتبليغه إلى سائر الأمم، فيتميز أمير المؤمنين بتفصيل النبي للمراد الإلهي بمقام النفس منه، وهو مقام عال من لوازمه اثبات الرتبة التالية لأمير المؤمنين بعد رسول الله (صلوات الله عليهما وآلهما) في جميع الشؤون ومنها القيام مقامه من بعده، وقد ذكر الزمخشري حدث المباهلة في الكشاف في تفسير الآية: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العلم...}، فقال: ((فأتى رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه [وآله] وسلم وقد غدا محتضنًا الحسين، آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشى خلفه وعليٌّ خلفها وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا...))([2])، وأُورد حديث المباهلة أيضًا في كل من تاريخ المدينة لإبن شبة: ((فَدَعَاهُمَا (النصارى) النَّبِيُّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ [وآله] وَسَلَّمَ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ، وَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: قَدْ أَنْصَفَكَ الرَّجُلُ فَقَالَا: لَا نُبَاهِلُكَ، وَأَقَرَّا بِالْجِزْيَةِ وَكَرِهَا الْإِسْلَامَ))([3])، والشريعة للآجري: ((وَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ بِالْمُبَاهَلَةِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ لَمَّا دَعَوهُ إِلَى الْمُبَاهَلَةِ, فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} فَأَبْنَاؤُنَا وَأَبْنَاؤُكُمْ: فَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) وَنِسَاؤُنَا وَنِسَاؤُكُمْ: فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْه [وآلهِ] وَسَلَّمَ), وَأَنْفُسُنَا وَأَنْفُسُكُمْ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)))([4])، وأيضًا في مناقب الإمام أمير المؤمنين لإبن المغازلي: ((فدعاهما (النصارى) إلى الملاعنة فوعداه أن يغادياه بالغداة، فغدا رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين، ثم أرسل إليهما، فأبيا أن يجيباه وأقرا له بالخراج، ... قال جابر: فيهم نزلت هذه الآية: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم...}))([5])، وغيرها من مصادر أهل الخلاف التي أجمعت على تفسير الأبناء بالحسن والحسين والنساء بالزهراء والأنفس بأمير المؤمنين (صلوات الله عليهم أجمعين).
ويختتم يوم المباهلة بلا مباهلة إذ أقرَّ وفد نصارى نجران بأحقية دين الإسلام؛ متمثِّلًا بانسحابهم من حلبة الملاعنة إذ ((قال كبيرهم: يا معشر النصارى إنِّي لأرى وجوهًا لو سألت من الله أن يزيل جبلًا لأزاله، لا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني منكم إلى يوم القيامة، فاقبلوا الجزية، فقبلوا الجزية ثم انصرفوا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي نفسي بيده إنَّ العذاب قد نزل على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولأضطرم الوادي عليهم نارًا، ولأستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولم يحل الحول على النصارى حتى هلكوا))([6]).
فلله درُّه من يوم عظيم البركة، انتصر فيه دين الله على دين النصارى المبتدع؛ بل على ما سيبتدع لاحقًا من دين، وكُشِف فيه عن مقام العترة المطهرة الواقعي ورتبهم الحقيقية، بقصر المباهلة عليهم دون غيرهم، ثُمَّ نصر مضاف لأمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) خاصة إذ وثقت له أعظم الفضائل.
الهوامش:
[1])) بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111): 35/ 257-258.
[2])) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، جار الله الزمخشري (ت: 538هـ): 1/ 368-369.
[3])) تاريخ المدينة لابن شبة، عمر بن شبة البصري(ت: 262هـ): 2/ 583.
[4])) الشريعة، الآجُرِّيُّ البغدادي (ت: 360هـ): 4/ 1757.
[5])) مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ابن المغازلي (ت: 483هـ): 333.
[6])) كتاب الأربعين، الشيخ الماحوزي (ت: 1121): 299.