بقلم: أ. د. ختام راهي الحسناوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عل خير الخلق أجمعين محد وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
فإن من الملفت للنظر في بعض النصوص التي وصلت إلينا عن خلافة عثمان بن عفان (23هـ–35هـ/643م–655م) أن شيعة الإمام علي عليه السلام قد مارسوا نشاطاً في التحديث وذكر فضائل آل البيت عليهم السلام عامة وسيدهم الإمام علي عليه السلام خاصة ما إن توفي عمر، وبدأت المشاورات لاختيار عثمان بن عفان خليفةً للمسلمين وحتى نهاية عهده على الرغم من استمرار قرار المنع من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله.
فما إن تمت بيعة عثمان حتى صدع عمار بن ياسر بإنكارها مؤكداً أن الإمامة حق في أهلها من أهل البيت فقال ((... يا معشر قريش، إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم، تحولونه ها هنا مرة، وها هنا مرة، وما آمن أن ينزعه الله منكم، ويضعه في غيركم، كما نزعتموه من أهله، ووضعتموه في غير أهله))[1].
وقال المقداد مزرياً على عبد الرحمن بن عوف اختياره: ((والله ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت... وأني لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله، ثم انتزاعهم سلطانه من أهله، قال عبد الرحمن: أما والله لقد أجهدت نفسي لكم، قال المقداد: اما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون))[2].
وقد كان لهذا الاعتراض من المقداد أثره في جندب بن عبد الله الأزدي الذي غادر المدينة إلى العراق ليمارس دوراً في الدعوة إلى أفضلية الإمام علي عليه السلام وأهليته للحكم، وقد تحدث عن نشاطه هذا في الكوفة فقال: ((... فكنت أذكر فضل علي على الناس فلا أُعدم رجلاً يقول لي ما أكره، وأحسن ما أسمعه قول مَنْ يقول: دع عنك هذا وخذ فيما ينفعك، فأقول: إن هذا مما ينفعني وينفعك، فيقوم عني ويدعني. حتى رُفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة، أيام ولينا، فبعث إليّ فحبسني حتى كُلّم فيّ فخلّى سبيلي))[3].
ونستشف من هذا النص:
- أن ما كان يذكره جندب من فضل علي هو من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وأن رفض الناس لسماعها كان بتأثير التوجيهات الرسمية التي استمرت حتى ذلك الحين قرابة الـ 15 عاماً.
- استمرار المنع من التحديث بفضائل الإمام علي عليه السلام في المدينة والأمصار، حتى ساغ لعيون السلطة أن ترفع ذلك إلى والي الكوفة الوليد بن عقبة (26–30هـ/646–650م) الذي عاقب على ذلك بالسجن.
ولم تكن البصرة أفضل حالاً فقد روى ربيعة السعدي، أنه قد ((أتيت حذيفة بن اليمان، فقلت له: يا أبا عبد الله، إنا لنتحدث عن علي عليه السلام ومناقبه، فيقول لنا أهل البصرة، إنكم تُفرطون في عليّ، فهل أنت محدثي بحديث فيه؟)) فحدثه[4].
وقد توفي حذيفة في بداية سنة 36هـ/656م[5]، مما يؤكد أن هذا الاستغراب من فضائل علي عليه السلام ومناقبه كان في خلافة عثمان، وأيام ولاية أقربائه من بني أُمية على البصرة، ولا ريب أن يرى أهلها ذلك وقد حرموا سماع هذه المناقب لما يزيد على عقد من الزمن.
وكان لأبي ذر الغفاري نشاط متميز في نشر مناقب الإمام علي عليه السلام وفضائله فهو ممن ثبت على ولائه له ((فنافح عنه، ودافع على أكثر من جبهة وفي عدة مواطن، ودعا المسلمين إليه بكل جرأة وصراحة، حتى آخر لحظة من حياته))[6].
ففي مكة كان أبو ذر يدعو المسلمين فيحدثهم عما سمعه من مناقب الإمام علي عليه السلام فيقول: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي: اللهم أعنه واستعن به، اللهم انصره واستنصر به، فإنه عبدك وأخو رسولك))[7].
وقد أشاد بمكانة الإمام علي عليه السلام في الإسلام، ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله وأسند ذلك إلى آيات القرآن النازلة فيه، وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله الذاكرة لفضله فقال[8]: ((أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله... فسأل سائل في المسجد، فلم يعطه أحد... وكان علي راكعاً، فأومأ بخنصره اليمنى إليه–وكان يتختم فيها–فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره، وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وآله، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وآله... قال: اللهم إن أخي موسى سألك فقال:
﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾[9] فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً:
﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ...﴾ وأنا محمد نبيك وصفيك... اجعل لي وزيراً من أهلي علياً أخي... قال أبو ذر: فوالله ما استتم رسول الله صلى الله عليه وآله الكلمة حتى نزل عليه جبريل من عند الله، فقال: يا محمد اقرأ:
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾))[10].
وكان أبو ذر يحدث بمنزلة آل البيت عليهم البيت فيقول: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: «ألا أن مثل أهل بيتي فيكم، مثل سفينة نوح من قومه، مَنْ ركبها نجا، ومَنْ تخلف عنها غرق»))[11].
ولا يخفى ما في هذا الحديث من دعوة للالتحاق بركب أهل البيت لاسيما مَنْ مثل هذا الحق فيهم وهو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
ولم يخشَ أبو ذر بطش الخلافة، ومنع أحاديث الفضائل فجهر بها في عاصمة الخلافة (المدينة المنورة)، فكان يجتمع إليه الناس في خلافة عثمان فيحدثهم في فضل أهل البيت ويجعله مدخلاً للحديث في فضائل عليّ فيقول: ((هم فينا كالسماء المرفوعة، وكالكعبة المستورة، أو كالقبلة المنصوبة،.. أو كالشجرة الزيتونة أضاء زيتها...، ومحمد وارث علم آدم، وما فُضلت به النبيون، وعلي ابن أبي طالب وصي محمد ووارث علمه، أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها! اما لو قدمتم من قدّم الله، وأخرتم مَنْ أخّر الله وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم، لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلف اثنان في حكم الله إلاّ وجدتم علم ذلك عندهم من كتاب الله وسُنة نبيّه...))[12].
ويظهر من هذا النص إيمان أبي ذر بولاية عليّ وأفضليته المستندة إلى النص، وإلى الفضائل التي خص بها من النبي صلى الله عليه وآله ولاسيما العلم بالكتاب والسُنة.
ولقد بدا واضحاً للخليفة وأعوانه خطورة أحاديث أبي ذر في الفضائل لاسيما وأنه أضاف إليها انتقاد تصرفات الخليفة وحاشيته في بيت المال[13]، فأُبعد أبو ذر إلى بلاد الشام[14] وفيها ((كان يقوم في كل يوم، فيعظ الناس، ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله،... ويروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله ما سمعه منه في فضائل أهل بيته عليه وعليهم السلام، ويحضُّهم على التمسك بعترته))[15].
ولم يَرُق ذلك لمعاوية بن أبي سفيان والي الشام الذي كان يحرص على إبقاء الشاميين ضمن نطاق الولاء له، فعمل على إبعاد اي عنصر يثير الشغب في وجهه أو يُفسد عليه ولاء الشام[16].
فلم يكن ثمة ما هو أخطر على معاوية من الدعوة إلى زعامة بني هاشم وفضلهم في مقر سلطانه، ناهيك عما كان يبديه أبو ذر من انتقادات لتصرفات معاوية المالية، فعجّل بالكتابة إلى الخليفة عثمان: ((أن أبا ذر تجتمع إليه الجموع، ولا آمن أن يُفسدهم عليك، فإن كان لك في القوم حاجة، فاحمله إليك))[17]. فعاد أبو ذر إلى المدينة وفيها حظر الخليفة على الناس أن يقاعدوه أو يكلموه، وتلا مرحلة العزل هذه خطوة النفي إلى الربذة[18]، فخرج إليها سنة 30هـ/650م وبقي فيها حتى وفاته سنة 32هـ/652م[19].
ويتبين مما تقدم أن أحاديث فضائل الإمام علي عليه السلام قد انطلقت–نسبياً–في خلافة عثمان بعد الحظر المؤقت الذي استمر من سنة (11هـ–23هـ/632م–643م)، وأنها تبلورت في ظل المعارضة لتولي عثمان تارة، ومناهضة سياسته تارة أخرى، ومهد ذلك لمرحلة جديدة ستبلغها الفضائل في خلافة الإمام علي [20].
الهوامش:
[1] الجوهري، السقيفة، ص90.
[2] الجوهري، السقيفة، ص88–89.
[3] الجوهري، السقيفة، ص90؛ الشيخ المفيد، الارشاد، 241–243.
[4] الشيخ المفيد، الارشاد، ص103.
[5] فلم يُدرك معركة الجمل. ابن عبد البر، الاستيعاب، 1/278.
[6] آل الفقيه، أبو ذر، ص56.
[7] الخوارزمي، مناقب، ص152–153. وينظر ما جمعه ابن عساكر بروايات وأسانيد شتى في ترجمة الإمام علي، 1/103–123 من أحاديث في خصوصية الإمام علي عليه السلام بأخوة النبي صلى الله عليه وآله في الدنيا والاخرة، وافتخار الإمام علي عليه السلام بذلك في عدة مناسبات ومنها قوله: ((أنا عبد الله، وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلاّ كذاب)).
[8] الطبرسي، مجمع البيان 3/273–274 وينظر: الواحدي، أسباب النزول، ص110.
[9] سورة طه: الآيات 25–32.
[10] سورة المائدة: الآية 55.
[11] الحاكم النيسابوري، المستدرك، 3/361.
[12] اليعقوبي، تاريخ، 2/148. وينظر: الهلالي، كتاب سليم، ص156.
[13] البلاذري، أنساب الأشراف، 6/166؛ المسعودي، مروج الذهب، 2/254–255.
[14] أبو مخنف، نصوص من تاريخ أبي مخنف، 1/79؛ اليعقوبي، تاريخ، 2/148؛ البلاذري، أنساب الأشراف، 6/166.
[15] الشيخ المفيد، الأمالي، ص162.
[16] من أمثلة ذلك إبعاد معاوية للصحابي عبادة بن الصامت عن الشام بعد أن كتب إلى الخليفة عثمان: ((إن عبادة بن الصامت قد أفسد عليّ الشام وأهله)) فكان عبادة يقوم بين ظهراني الناس في المدينة ويقول: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (سيلي أموركم بعدي رجال يُعرّفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله...) فوالذي نفس عبادة بيده أن فلاناً–يعني معاوية–لمن أولئك...)).
ابن عساكر، تاريخ دمشق، 28/136؛ الذهبي، سير أعلام، 2/263–264.
وقد خاف معاوية من نشاط بعض الكوفيين الذين نفاهم الخليفة عثمان من الكوفة في ولاية سعيد ابن العاص إلى الشام، فكتب إلى الخليفة: ((... فقد أفسدوا كثيراً من الناس... من أهل الكوفة ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغرّوهم)). الطبري، تاريخ، 4/219. وينظر: البلاذري، أنساب الأشراف، 6/155.
[17] المسعودي، مروج الذهب، 2/254؛ الشيخ المفيد، الأمالي، ص162.
[18] المسعودي، مروج الذهب، 2/255؛ ابن أبي الحديد، شرح النهج، 8/202.
والربذة: من قرى المدينة على ثلاثة أيام. الحموي، معجم البلدان، 3/24؛ ابن شبه، تاريخ المدينة، 3/1035.
[19] ينظر: ابن سعد، الطبقات، 3/165؛ ابن عبد البر، الاستيعاب، 1/214؛ ابن الأثير، الكامل، 3/113.
[20] لمزيد من الاطلاع ينظر: رواية فضائل الإمام علي عليه السلام والعوامل المؤثرة فيها (المراحل والتحديات)، الدكتورة ختام راهي الحسناوي، ص32-40.