الباحث: عماد طالب موسى
الْحَمْدُ للهِ غَيْرَ مَقْنُوط مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلاَ مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ، وَلاَ مَأْيُوس مِنْ مَغْفِرَتِهِ، وَلاَ مُسْتَنْكَف عَنْ عِبَادَتِهِ، الَّذِي لاَ تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ، وَلاَ تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ([1]). والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وأهل بيته الطاهرين.
ما زلنا نسيح في بستان الفضائل و ترْعةُ الفداء، لنقطف فضيلة من الفضائل التي تفرد بها الإمام علي عليه السلام ولم يسبقه إليها أحد، والحق لم تكن لغيره ممن جاء بعده على مرِّ التاريخ وتقادم العصور.
تلك الفضيلة التي نفستها ملائكة السماء وتعجبت منها قبل الصالحين في الأرض([2])، ولكلِّ قولٍ مصداقٌ، ولكلِّ عملٍ أجرٌ، وما أروع من يذوب في ذات الله ورسوله موطنا نفسه على شدائد الأمور، وتفاقم المحن، وفيها لا يصح (( إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))([3]).
وليس ببعيد على من ((كان والله عَلَم الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجا، وبحر الندى، وطَوْد النهى، وكهف العلا للورى، داعياً إلى المحجة العظمى، متمسكا بالعروة الوُثْقى، خير من آمن واتقى، وأفضل من تقمص وارتدى، وأبر من انتعل وسعى، وأفصح من تنفس وقرأ، وأكثر من شهد النجوى، سوى الأنبياء والنبي المصطفى، صاحب القبلتين فهل يوازيه أحد؟ وهو أبو السبطين فهل يقارنه بشر؟ وزوج خير النساء فهل يفوقه قاطن بلد؟ للاسُودِ قتال وفي الحروب ختال ، لم تر عيني مثله ولم تَرَ ، فعلى من انتقصه لعنة الله والعباد إلى يوم التناد))([4]).
فدعونا نلج في أحداث التأسيس الإسلامي لنقف عند هجرة الرسول صلى الله عليه وآله إلى المدينة، وهو صلى الله عليه وآله يتقاسم أعباء التبليغ مع ابن عمه عليه السلام ويشقّا بنور الإسلام دياجي الكفر، إذ أخذت قريش تكثر من اجتماعاتها بأعضائها الأربعين البالغين من العمر فوق الأربعين، ويتآمرون على المكر برسول الله ( صلى الله عليه وآله) ويتخيرون أيسر السبل وانجحها للفتك به، إلى أن شاركهم في أحد اجتماعاتهم جماعة ((فلما صاروا إلى باب دار الندوة نظروا إلى شيخ لا يعرفونه في جماعتهم، فأنكروه وسألوه ! ، ممن هو ؟ ، فقال : رجل من أهل نجد، بلغني ما اجتمعتم له فأردت أن أكون معكم فيه، وعسى أن لا تعدموني رأيا ونصحا، فقالوا: ادخل، فكان ذلك الشيخ - فيما ذكروا - إبليس اللعين لعنه الله تصور لهم))([5])، وأخذوا يتحاورون ويقترحون طرقا للخلاص من الدين الإسلامي والنبي (صلى الله عليه وآله) إلى أن أشار عليهم بأن يجتمع من كل بطن من بطون قريش رجل شريف، ويكون معكم من بني هاشم واحد، فيأخذون حديدة أو سيفا ويدخلون عليه فيضربوه كلهم ضربة واحدة، فيتفرق دمه في قريش كلها، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه، فما بقي لهم إلا أن تعطوهم الدية، فأعطوهم ثلاث ديات، قالوا: نعم وعشر ديات([6]).
وقالوا بأجمعهم: الرأي رأي الشيخ النجدي - وهي الهيأة التي تمظهر بها إبليس- فاختاروا خمسة عشر رجلا فيهم أبو لهب على أن يدخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقتلوه، ثم تفرقوا على هذا وأجمعوا أن يدخلوا عليه ليلا وكتموا أمرهم، فقال أبو لهب: بل نحرسه فإذا أصبحنا دخلنا عليه، فباتوا حول حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأنزل الله سبحانه وتعالى على رسوله: (( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ))([7]). فقال الرسول ( صلى الله عليه وآله) : يا علي إن الروح هبط علي بهذه الآية آنفا، يخبرني أن قريشا اجتمعت على المكر بي وقتلي، وإنه أوحى إلي عن ربي عز وجل أن أهجر دار قومي، وأن أنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي وأنه آمرني أن آمرك بالمبيت على ضجاعي - أو قال: مضجعي - لتخفي بمبيتك عليه أثري، فما أنت قائل وصانع ؟ فقال علي (عليه السلام) : أو تسلمن بمبيتي هناك يا نبي الله ؟ قال: نعم، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكا، وأهوى إلى الأرض ساجدا، شكرا لما أنبأه به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سلامته، فكان علي (عليه السلام) أول من سجد لله شكرا، وأول من وضع وجهه على الأرض بعد سجدته من هذه الأمة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما رفع رأسه قال له: امض لما أمرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت أكن فيه كمسرتك(*) واقع منه بحيث مرادك، وإن توفيقي إلا بالله، وقال: وأن القي عليك شبه مني، أو قال : شبهي، قال : إن يمنعني نعم، قال : فارقد على فراشي، واشتمل ببردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا علي أن الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا بن أم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم (عليه السلام) والذبيح إسماعيل (عليه السلام)، فصبرا صبرا، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، ثم ضمه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى صدره وبكى إليه وجدا به، وبكى علي (عليه السلام) جشعا لفراق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يفرش له([8]).
فنام (عليه السلام) على فراش رسول الله والتحف ببردته، وجاء جبرئيل (عليه السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: اخرج والقوم يشرفون على الحجرة فيرون فراشه وعلي (عليه السلام) نائم عليه، فيتوهمون أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله)([9]).
فقال له جبرئيل (عليه السلام): ( يا محمد، خذ ناحية ثور ) وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، فلما انتهى إلى ثور دخل الغار، فلما أصبحت قريش وأضاء الصبح وثبوا في الحجرة وقصدوا الفراش، فوثب علي (عليه السلام) إليهم وقام في وجوههم فقال لهم: (ما لكم؟) .
قالوا : أين ابن عمك محمد؟
قال علي (عليه السلام) : ( جعلتموني عليه رقيبا ؟ ألستم قلتم له : اخرج
عنا، فقد خرج عنكم، فما تريدون؟ )([10]) .
فأقبلوا عليه يضربونه، فمنعهم أبو لهب، وقالوا: أنت كنت تخدعنا منذ الليلة([11]).
وما هذا الموقف إلا تجسيدا لفداء الرسول (صلى الله عليه وآله) وحماية الدين، فالإمام عَلِيٌّ أَوَّلُ مَنْ فدى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ بات على فراشه مع علم أمير المؤمنين (عليه السلام) أن قريشا أغلظ الناس على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأقساهم قلبا، ولا يخفى على كل عاقل أن الاستسلام للعدو المناصب والمبغض المعاند الذي يريد أن يشفي نفسه ولا يبلغ الغاية في شفائها إلا بنهاية التنكيل وغاية الأذى بضروب الآلام وبذلك ثبت أن الفضيلة التي حصل عليها أمير المؤمنين عليه السلام ترجح على كل فضيلة، وبطل قول من رام المفاضلة بينه وبين أبي بكر من العامة والمعتزلة الناصبة له (عليه السلام). وبعد فإن الحجة إذا قامت على فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) على غيره، ولاح على ذلك البرهان وجب علينا القول به وترك الخلاف فيه ولم يوحشنا منه خلاف العامة الجهال، وليس في تفضيل سيد الوصيين وإمام المتقين وأخي رسول رب العالمين سيد المرسلين ونفسه بحكم التنزيل وناصره في الدين وأبي ذريته الأئمة الراشدين الميامين على غيره من المتقدمين من الصحابة أمر يحيله العقل، ولا يمنع منه السنة، ولا يرده القياس ولا يبطله الاجماع، إذا عليه جمهور شيعته، وقد نقلوا ذلك عن الأئمة من ذريته، وإذا لم يكن فيه إلا خلاف الناصبة له أو المستضعفين ممن يتولاه لم يمنع من القول به([12]).
فما زال أمير المؤمنين عليه السلام بحر العلم والفضائل يُغتَرف منه النهج القويم لبناء الإنسانية، والتأسيس الرصين لمعنى الحرية.
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصالح:
([2]) ينظر: المسترشد، محمد بن جرير الطبري ( الشيعي ): 312، و كنز الفوائد، أبي الفتح الكراجكي: 208.
([3]) سورة الشعراء: 89.
([4]) روج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي: 3/ 52.
([5]) تاريخ الطبري: 2/ 98، وينظر: شرح الاخبار، القاضي النعمان المغربي( ت: 363هـ) ، تحقيق: السيد محمد الحسيني الجلالي، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة، مطبعة مؤسسة النشر الاسلامي، ط2، 1414ه: 1/ 257، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، ابن الجوزي( 597هـ)، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، ومصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط1، 1412- 1992م: 3/ 46.
([6]) بحار الأنوار، العلامة المجلسي(1111هـ)، مؤسسة الوفاء، بيروت- لبنان، ط2،1403ه- 1983م: 19/ 31.
([7] الأنفال: 30.
(* ) مسر : قَالَ اللّيث: الْمَسْرُ: فعل الماسِر، يُقَال: هُوَ يَمْسُرُ النَّاس، أَي: يُغْرِيهم. وَقَالَ غيرُه: مَسَرْتُ بهِ ومَحَلْتُ بِه، أَي: سَعَيْتُ بِهِ. الماسِرُ: السَّاعِي، وهنا لربما أراد الإمام (عليه السلام) اسعى فيما تأمرني به كسعيك لانجازه. تهذيب اللغة، محمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، أبو منصور (المتوفى: 370هـ)، تحقيق: محمد عوض مرعب، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط1، 2001م: 12/ 294.
([8]) ينظر: بحار الأنوار: 19/ 60.
([9]) ينظر: إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطوسي(ت: 548هـ)، مؤسسة آل البيت(ع) لإحياء التراث، مطبعة ستارة- بقم، ط1، 1417هـ:146- 147.
([10]) قصص الأنبياء، قطب الدين الراوندي (ت: 573هـ)، تحقيق: الميرزا غلام رضا عرفانيات اليزدي الخرساني، مؤسسة الهادي للطباعة والنشر، ط1، 1418هـ: 334.
([11]) ينظر: إعلام الورى بأعلام الهدى: 147.
([12]) ينظر: بحار الأنوار: 36/ 49.