من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة: قوله (عليه السلام): ((وَحَكَمَ فَعَدَلَ))

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة: قوله (عليه السلام): ((وَحَكَمَ فَعَدَلَ))

3K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 06-06-2021

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل – الجامعة المستنصرية

((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
قوله عليه السلام: ((وَحَكَمَ فَعَدَلَ))
تدلُّ مادَّة (عَدَلَ) في اللُّغة على الإنصاف، والحقِّ، والمساواة، والاعوجاج.
يُقال: عَدَلَ يَعدِلُ، أَيْ: يحكم بالحقِّ والعدل[1]، والعادل المقسط، وعدلت الشَّيء بالشَّيء عدلاً، إذا جعلته بوزنه[2]، والشَّيء إذا ساوى الشَّيء، فهو عِدْلُه، وعدلت بفلان فلاناً، وهو يُعادلُه، إذا ساويته به، وتعني: الحكم. فالعدل: الحكم بالاستواء[3]، وعدل في القضيَّة، فهو عادل، والعديل الذي يعادلك في الوزن والقدر[4].
وقال الرَّاغب: «العَدَالَةُ والمُعَادَلَةُ: لفظٌ يقتضي معنى المساواة، ويستعمل باعتبار المضايفة، والعَدْلُ والعِدْلُ يتقاربان، لكن العَدْل يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأَحكام... والعِدْل والعَدِيلُ فيما يدرك بالحاسَّة، كالموزونات والمعدودات والمكيلات، فالعَدْلُ هو التَّقسيط على سواء»[5].
والعدل هو «مَا قَامَ فِي النُّفُوسِ أَنــَّه مُسْتقيم، وَهُوَ ضِدُّ الجَوْر. عَدَل الحاكِمُ فِي الْحُكْمِ يَعْدِلُ عَدْلاً وَهُوَ عادِلٌ مِنْ قَوْمٍ عُدُولٍ وعَدْلٍ؛ الأَخيرة اسْمٌ لِلْجَمْعِ»[6].
والعدل الحكم الحقُّ «يُقال: هو يقضي بالحقِّ، ويَعدل، وهو حَكَمٌ عَدْلٌ في حكمه»[7].
وفرَّق أَبو هلال العسكريّ بين (العدل) و(الإنصاف) بقوله: «إنَّ الإنصاف إِعْطَاء النَّصف، وَالْعدْل يكون فِي ذَلِك وَفِي غَيره، أَلا ترى أَنَّ السَّارِق إِذا قطع قيل إنــَّه عدل عَلَيْهِ، وَلا يُقَال إِنــَّه أَنصف»[8].
وفرَّق أَبو هلال العسكريّ بين (العدل) و(القسط) بقوله: «إنَّ الْقسْط هُوَ الْعدْل البيِّن الظَّاهِر، وَمِنْه سُمِّي الْمِكْيَال قسطاً، وَالْمِيزَان قسطاً؛ لأَنــَّهُ يصور لَك الْعدْل فِي الْوَزْن حَتَّى ترَاهُ ظَاهرا، وَقد يكون من الْعدْل مَا يخفى...» [9].
وفرَّق أَبو هلال العسكريّ ــ أَيضاً ــ بين (العدل) و(الحسن) بقوله: «الْحسن مَا كَانَ الْقَادِر عَلَيْهِ فعله، وَلا يتَعَلَّق بنفع وَاحِدٍ أَو ضرِّه، وَالْعدْل حسن يتَعَلَّق بنفع زيد أَو ضرِّ غَيْره؟، أَلا ترى أَنه يُقَال إِنَّ كل الْحَلال حسن، وَشرب الْمُبَاح حسن، وَلَيْسَ ذَلِك بِعدْل»[10].
وبهذا المعنى ورد الفعل (عدل) مرَّتين في الخطبة، مرَّةً أُسند الفعل فيها إلى (القضيَّة)، فقال أَمير المؤمنين (عليه السلام): «وعَدَلَتْ قضيّتُهُ»، و(عَدَلَت) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والتَّاء تاء التَّأنيث السَّاكنة لا محلَّ لها من الإعراب، و(قضيَّتُه) فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء ضمير متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى الله تبارك وتعالى، أَي: أَنَّ الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ عادلٌ في قضيَّته، فهو كناية عن عدل الله في حكمه وقضائه، وجملة (وعَدَلَتْ قضِيَّتُهُ) معطوفة على جملة (وبَلَغَتْ حُجَّتُهُ).
أَمَّا في المرَّة الثــَّانية، فقد قابل أَمير المؤمنين (عليه السلام) بين هذا الفعل (عدل) وفعل آخر، وهو (حَكَمَ)، فقال (عليه السلام): «وَحَكَمَ فَعَدَلَ»، وسيأْتي الكلام ــ إنْ شاء الله تعالى ــ على دلالة الفعل (حَكَمَ)، بَيْدَ أَنــَّه ممَّا تجدر الإشارة إليه أَنَّ العطف بالفاء يُفيد التَّرتيب باتِّصال، أَيْ: بلا مهلة، وهو المعبَّر عنه بالتَّعقيب، نحو قوله تعالى: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) [11]، وكثيراً ما تقتضي أَيضاً السَّبب إنْ كان المعطوف جملةً، نحو قوله تعالى: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) [12]. وكذا هي الحال في الخطبة، إذ قال أَمير المؤمنين (عليه السلام): «وحَكَمَ فَعَدَلَ»، فـ(حَكَمَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله تبارك وتعالى، والفاء عاطفة، و(عَدَلَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتح، والفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، والجملة الفعليَّة (عَدَلَ) معطوفة على الجملة الفعليَّة (حَكَمَ)[13].

الهوامش:
[1]. ينظر: العين 1/93.
[2]. ينظر: جمهرة اللغة 1/355.
[3]. ينظر: معجم مقاييس اللغة 4/246.
[4]. ينظر: الصحاح في اللغة 1/451.
[5]. مفردات ألفاظ القرآن: 551.
[6]. لسان العرب 14/456.
[7]. تحفة الأريب بما في القرآن من الغريب 186.
[8]. الفروق اللغوية: 194.
[9]. المصدر نفسه: 194.
[10]. الفروق اللغوية: 194.
[11]. عبس: 21.
[12]. القصص: 15. وينظر: حاشية الصبّان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك 3/92.
[13]لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 38 –40.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3098 Seconds