بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل
((الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي: «ُيُجيبُ دَعوَةَ مَن يَدعوهُ»
يُجِيْبُ
جاء في (تهذيب اللُّغة): «الجوابُ رَدِيدُ الْكَلام، وَالْفِعْل: أَجَابَ يُجِيبُ. وَمن أَمْثَال الْعَرَب: أَساءَ سَمْعاً فأَسَاءَ جابةً [1]. قَالَ أَبُو الْهَيْثَم: جابةٌ اسمٌ يقوم مقَام الْمصدر، وَهُوَ كَقَوْلِهِم: أَطعتُهُ طَاعَة... فالإجابة مصدرٌ حقيقيّ، والجابة اسمٌ، وَكَذَلِكَ الْجَواب، وَكِلاهُمَا يقومان مقَامَ الْمصدر »[2].
وقال الرَّاغب: «وجوابُ الكلام: هو ما يقطع الجوب؛ فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع، لكنْ خُصَّ بما يعود من الكلام دون المبتدأ من الخطاب، قال تعالى: (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا) [النمل: 56]، والجواب يُقال في مقابلة السُّؤال، والسُّؤال على ضربين:
طلبُ مقال، وجوابه المقال.
وطلبُ نوال، وجوابه النَّوال.
فعلى الأَوَّل: (أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ) [الأَحقاف: 31]، وقال: (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ) [الأحقاف: 32].
وعلى الثــَّاني قوله: (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما) [يونس: 89]، أَيْ: أُعطيتما ما سأَلتما.
والاستجابة قيل: هي الإجابة، وحقيقتها هي التَّحرِّي للجواب والتَّهيؤ له، لكن عُبِّر به عن الإجابة لقلَّة انفكاكها منها، قال تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال: 24]، وقال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60]»[3].
وفي أَسماء الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ المجيب، وهو الَّذي يُقابل الدُّعاء والسُّؤال بالعطاء والقبول، وهو اسم فاعل من: أَجابَ يُجيبُ، قال تعالى: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)[4]، أَيْ: فليجيبوني، تقول: أَجابَه عَنْ سُؤَاله، وَقَدْ أَجابَه إِجَابَةً، وَإِجَابًا، وجَواباً، وَجَابَةً، واسْتَجْوَبَه واسْتَجابَه، واسْتَجابَ لَهُ. والاستِجابةُ والإِجابةُ، بِمَعنًى واحد، ويُقال: مَا أَجْوَدَ جَوابَه!، وَهُوَ أَجْوَدُ جَواباً، لا يُقال: مَا أَجْوَبَه، ولا هُوَ أَجْوَبُ مِنْكَ، وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: أَجْوِدْ بِجَوابهِ!، وَلا يُقال: أَجوِب بِهِ» [5].
وقال الفيُّوميّ: «جَوَابُ الكتاب معروف، وجَوَابُ القول قد يتضمَّن تقريره، نحو: (نـَعَمْ) إذا كان جواباً لقوله: (هل كان كذا؟)، أَو نحوه، وقد يتضمَّن إبطاله، والجمع (أَجْوِبَةٌ، وجَوَابَاتٌ)، ولا يسمَّى جواباً إلاَّ بعد طلب، وأَجَابَهُ إِجَابَةً، وأَجَابَ قوله واسْتَجَابَ له، إذا دعاه إلى شيءٍ فأَطاع، وأَجَابَ الله دعاءه: قَبِلَهُ... وجَابَ الأرض يَجُوبُهَا جَوْبًا: قطعها، و(انْجَابَ) السَّحاب: انكشف»[6].
وفرَّق أَبو هلال العسكريّ بين (الطَّاعة) و(الإجابة) بقوله: «إنَّ الطَّاعة: موافقة الإرادة الحادثة إلى الفعل برغبته، أَو رهبته. والإجابة: موافقة الدَّاعي إلى الفعل من أَجل أَنــَّه دَعَا به؛ ولذا يُقال: أَجاب اللهُ فلاناً، ولا يُقال: أَطاعَهُ... والطَّاعة تكون من الأَدنى للأَعلى؛ لأَنــَّها في موافقة الإرادة الواقعة موقع المسأَلة، ولا تكون إجابةً إلاَّ بأَنْ تُفعل لموافقة الدُّعاء بالأَمر، ومن أَجله»[7].
وجاء هذا الفعل «يُجيبُ» مرَّةً واحدةً في الخطبة، مطابقاً معناه اللُّغويّ، أَورده أَميرُ المؤمنين (عليه السلام) في مقام تعظيمه لله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ وتمجيده، ببيان صفةٍ من صفاته، في أَنــَّه ــ تبارك وتعالى ــ يقبل دعوة مَنْ يدعوه، إذ قال (عليه السلام): «وَيُجِيْبُ دَعْوَةَ مَنْ يَدْعُوْهُ». وإجابة الدُّعاء من الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ لعباده تُعَدُّ وعداً منه ــ تبارك وتعالى ــ، وبشارةً للمؤمنين، ويمكن أَنْ تشتمل على الثــَّواب الدُّنيويّ، أَو الأُخرويّ، قال ــ تعالى ــ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [8]، وقال: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [9]. واستجابة الدُّعاء أَنواع، فقد رُوي عن أَبي سعيد الخدريّ أَنــَّه قال: قال رسول الله ــ صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ ــ: «دعوة المسلم لا تُردُّ إلاَّ لإحدى ثلاث: ما لم يدعُ بإثم، أَو قطيعة رحم، إمَّا أَنْ يُعجَّل له في الدُّنيا، وإمَّا أَنْ يُدَّخَرَ له في الآخرة، وإمَّا أَنْ يُصْرَفَ عنه من السُّوء بقدر ما دعا»[10].
و«يُجيبُ» فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، والفاعل ضمير مستتر، تقديره «هو»، عائد إلى الله ــ تبارك وتعالى ــ، و«دعوة» مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الفتحة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، و«مَنْ» اسم موصول مبنيٌّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، و«يدعوه»: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة المقدَّرة على الواو، والفاعل ضمير مستتر، تقديره (هو) عائد إلى الله ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ، وجملة «يدعوه» صلة الموصول لا محلَّ لها من الإعراب.
وممَّا تجدر الإشارة إليه أَنَّ أَمير المؤمنين (عليه السلام) استعمل هذا الفعل «يُجيبُ» بصيغة المضارع؛ لما فيه من الدَّلالة على الحال والاستقبال،والتَّجدُّد والحدوث[11]؛ فصيغة المضارع مناسبة لهذا الفعل؛ فيكون مراد أَمير المؤمنين (عليه السلام) : أَنَّ إجابة الدُّعاء مستمرَّة باستمرار وجود الدَّاعي، فما زال هناك داعٍ، فهو ــ عَزَّ وَجَلَّ ــ يجيب دعوته، فالإجابة مستمرَّة، ومتجدِّدة باستمرار الدُّعاء وتجدُّده)»[12].
الهوامش:
[1]. ينظر: جمهرة الأمثال: 1/25.
[2]. تهذيب اللغة 4/ 57. وينظر: العين: 1/493، ومعجم مقاييس اللغة 1/491، والمحيط في اللغة: 2/142.
[3]. مفردات ألفاظ القرآن: 210.
[4]. البقرة: 186.
[5]. ينظر: لسان العرب: 1/283، وتاج العروس: 1/367.
[6]. المصباح المنير: 1/ 113.
[7]. الفروق اللغوية: 230.
[8]. غافر: 60.
[9]. الشورى: 26.
[10]. ينظر: الموطأ: 172، وصحيح مسلم: 17/52، والترغيب والترهيب: 3/285.
[11]. ينظر: الفعل (نستعينه) من الكتاب.
[12] لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 112-116.