بقلم: د. حسام عدنان الياسري.
الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.
وبعد:
الكعَام شيء يجعل في فم البعير يشد به إذا هاج، فيمنعه من أنْ يرغو، أو يعض ويأكل ([1]). وقد استعمل الإمام لفظة (كَعَمْته) و (مَكْعُوم) مرة واحدة لكل منهما في كلامه الوارد في نهج البلاغة([2]). للدلالة على ما يأتي:
أولاً: منع الناس الراغبين في الله من الكلام.
وذلك في قوله (عليه السلام) في سياق وصف الراغبين في الله تبارك وتعالى، الذين شدد عليهم الظالمون الخناق فهم: ((رِجَالٌ غَضَّ([3]) أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ، وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْـمَحْشَرِ، فَهُمْ بَيْنَ شَرِيد نَادٍّ ([4])، وَخَائِف مَقْمُوع ([5])، وَسَاكِت مَكْعُوم...))([6]). وهذا النص من سياق يتحدث فيه الإمام (عليه السلام) عن أصناف الناس، وهم أربعة عنده، منهم هذا الصنف الأخير الذين وصفهم بأنهم غضّ أبصارهم ذكر المعاد إلى الله تبارك وتعالى، وأسبل دموعهم خوف المحشر والقيامة. دلالة على خشيتهم من الباريء جل جلاله، ورغبتهم في لقائه. ثم شرع (عليه السلام) في وصف حالهم في الدنيا مع الظالمين، فمنهم الشريد الهارب الذي شرد في البلاد مطروداً كالبعير الناد، لكثرة إنكاره ألمنكر، ولقلة صبره على مشاهدة الأذى في الناس([7]). ومنهم الخائن المقموع من الذل. والصنف الثالث هو الساكت المَكْعوم. وهو الذي سكت مخافة من بطش الظالمين وسطوتهم، فكأنه أسكت عنوةً. ولهذا استعمل أمير المؤمنين مفردة (مَكْعُوم) التي تستعمل في مجال دلالي مخصوص بالإبل من الدواب، موظفاً إيّاها في هذا السياق للدلالة على معنى الإسكات والمنع من الكلام. جاعلاً هذا الصنف من الناس شبيهاً بالبعير الذي يُكْعَم فمه مخافة أنْ يرغو أو يعض ويأكل ([8]). فكأن هذهِ الطائفة من الناس قد أكْعمت أفواهها خشية من أنْ تتكلم بالحقِّ، وتشهد على الظالمين ما فعلوه من ظلم وقهر، أو أن تهيج هذهِ الفئة على السلطة الحاكمة، فتحدث تغييراً في أفكار الناس، ورؤاهم فتميلهم إلى جانب الحق، مما يؤدي إلى إثارة التغيير، واندفاع الناس نحو إسقاط الظالمين من عروشهم.
ولا يكون الكَعْم إلاّ عند هياج البعير وانزعاجه، وهذا الملمح يسوغ فكرة توظيف مفردة (كعم) بصيغة (مَفْعُول) الدالة على كبت فم الإنسان، ومنعه من الكلام كأنّ الخوف قد كعمهم وأسكتهم فلم يتكلموا بكلمة. أو أنهم غير راضين عما يرون ويسمعون من ظلم للناس وقهر، فليس لهم - حينئذٍ - أنْ يتحدثوا أو أنْ يثوروا ضد هذهِ الأمور، فتعمد السلطة في هذا الحال إلى كَعْمِهم وإسكاتهم إمّا بالترهيب أو بالترغيب، وغير ذلك من الوسائل التي يستعملها الظالمون في إيذاء الناس وإسكاتهم.
وربما يكون هذا الضرب من الناس من القادرين على ضبط أنفسهم، وكبحِ جِماحها، مستعملين في ذلك مبدأ (التَّقِيّة)([9]) الذي يعد سبيلاً إلى منع هياجهم وثورتهم في نحو التصدي للظالمين.
ثانياً: الدلالة على منعِ الموجِ من التّقَاذف والهَيَاج.
وأتى الإمام (عليه السلام) بهذهِ الدلالة في مقام حديثه عن دحو الأرض، وكبسها على مور أمواج البحر المُسْتَفْحِلَةِ. وذلك في قوله (عليه السلام): ((كَبَسَ الاْرْضَ عَلى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ، وَلُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ... فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلاَطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا، وَسَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا... وَسَكَنَتِ الاْرْضُ مَدْحُوَّةً([10]) فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ، وَرَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأوهِ([11]) َاعْتِلاَئِهِ... وَكَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ([12]) جَرْيَتِهِ، فَهَمَدَ([13]) بَعْدَ نَزَقَاتِهِ([14])...))([15]). فكأن الأرض أشبه بالسد الذي يكبح جماح الموج المتلاطم الذي يصطخب متقاذفاً، كالفحل الهائج. وتشبيه الإمام له بالفحل من الإبل عند هياجه وإرغائه. سوغ - حينئذ - استعمال مفردة (كَعَمَتْهُ)؛ للدلالة على منع هذا (البعير) الهائج من أن يصطخب ويرغو، فأضحت الارض بمنزلة الحبل الذي يكعم به فم البعير، لمنعه من الرغاء والطغيان(([16])).
الهوامش:
([1]) ينظر: العين (كعم): 1/209، وتهذيب اللغة (كعم): 1/213، ومقاييس اللغة (كعم):5/185، ولسان العرب (كعم): 12/522.
([2]) ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 400.
([3]) غَضَّ بَصَرَهُ كَفّهُ وكَسَرَهُ، مُرْخياً إيّاه. فتصير جفونه دَانِية. ينظر: لسان العرب (غضض): 7/197.
([4]) النّادّ الشارد المُنْزَعج. ينظر: لسان العرب (ندد): 3/419، 420.
([5]) القَمْعُ القَهْرُ والذّلُّ. ينظر: لسان العرب (قمع): 8/294.
([6]) نهج البلاغة: خ/32: 71.
([7]) ينظر: شرح نهج البلاغة (البحراني): 2/273.
([8]) ينظر: لسان العرب (كعم): 12/522.
([9]) التّقِيّة مأخوذة من (الوقاية)، وهي الحفظ مما يؤذي ويَضُرّ. ينظر: مفردات الفاظ القرآن (وقي): 881.
([10]) الدّحْوُ البَسْطُ. ودحو الأرض بَسْطها. ينظر: تاج العروس (دحو): 38/
([11]) البَأو الفَخْر والكِبرَ. ينظر: تاج العروس (بأو): 37/139.
([12]) الكِظّةُ البِطْنَةُ وآمتلاء البطن بالطعام والشراب. وتدل على امتلاء السِّقاء بالماء. ينظر: لسان العرب (كظظ): 7/457. والمراد امتلاء البحار وارتفاع موجه.
([13]) الهَمْدُ السكوت والسكون. ينظر: لسان العرب (همد): 3/436.
([14]) النزَق الخِفّة والعجلة والطيش في كل أمر. ينظر: لسان العرب (نزق):10/352
([15]) ينظر: نهج البلاغة: خ /91: 161.
([16]) لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 98-101.