من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام دلالة الفعل ((نُشِرَ)) في قوله: «وَنُشِرَ عَلَيْهِ كَفَنُهُ»

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من دلالة الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام دلالة الفعل ((نُشِرَ)) في قوله: «وَنُشِرَ عَلَيْهِ كَفَنُهُ»

235 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 06-05-2025

بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل

الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:

نُشِرَ، يُنْشَرُ

تدلُّ مادَّة (نشر) في اللُّغة على التَّفريق، والبسط، والتَّشعُّب، وهي خلاف الطَّيِّ، وتدلُّ ــ مجازاً ــ على حياة الأَموات بعد الموت، وبَعْثِهِم من قبورهم للحساب. قال ابن فارس: «النُّون والشِّين والرَّاء أَصل صحيح يدلُّ على فتح شيء، وتشعُّبه»([1]).

ويقال نَشَر الشَّيءَ نَشْراً فانتشر بمعنى: فَرَّقه، ونشر علمه: بسطه، والله ينشر رحمته، يبسطها ويمنحها، وتنشر الملائكة أَجنحتها، أَو تُنْشَر كتب الأَعمال يوم القيامة. وانتشر النَّاس وغيرهم: تفرَّقوا. ونشر الثــَّوب والكتاب، وصحف مُنشَّرة. واستنشره: طلب إليه أَنْ ينشر عليه الثــَّوب، قال تعالى: (فَانـْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ)([2])، أَي: تفرَّقوا([3]).

ومن المجاز: نشر الله الموتى نشراً، وأَنشرهم، ونشروا نشوراً وانتشروا. والنُّشور: الحياة بعد الموت. ينشرهم الله انتشاراً ([4]). ونشر الله الميِّت وأَنشره لغتان فصيحتان، والميِّت منشور ومُنْشَر([5])، وفي التَّنزيل: (ثــُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ)([6]). ونشر الله الموتى نشوراً من باب قعد حَيُوا، ونشرهم الله يتعدَّى ولا يتعدَّى([7]). ونشر الله الميِّت يَنْشُرُه نَشْراً ونُشُوراً وأَنشره: أَحياه. فالنُّشور حياة الأَموات بعد الموت، وبعثهم من قبورهم للحساب([8]).

ولعلَّه مأْخوذ من قولهم (النَّشْرُ): وهو أَنْ يخرج النَّبت، ثــُمَّ يبطء عنه المطر، فييبس، ثــُمَّ يصيبه المطر، فينبت بعد اليَبَس ([9]). فحال الإنسان بعد إحيائه من القبر مماثل لذلك، فيولد الإنسان في الحياة الدُّنيا، ثــُمَّ يبدأُ بمراحل عمره بانتقاص، فيصل إلى مرحلة الموت (اليَبَس)، ثــُمَّ يصيبه مطر؛ إذ تأْتي دعوة الله إليه بالنُّشور، فيحيا بعد الموت، فينبت بعد اليَبَس.

وجاء هذا الفعل (نشر) مرَّتين في الخطبة، كان في المرَّة الأُولى بمعنى التَّفريق، والبسط، والتَّشعيب، وهو عاشر الأَفعال الَّتي أَوردها أَمير المؤمنين (عليه السلام)  في بيان ما يحصل على الإنسان الميِّت في المغتسل بعد موته، فبعد أَنْ تُغمض عيناه، وتُمدَّ يداه ورجلاه، ويُوجَّه إلى القبلة، ويُجرَّد من ثيابه، ويُغسَّل، ويُنِشَّف، ويُرجع به إلى حال السُّكون، ويُفتح له كفنه بعد أَنْ كان معقوداً، وتُرتَّب قطعه الثــَّلاث؛ لِتُنشرَ عليه، أَيْ: تُفرَّق على جسده، وتُشعَّب، وتُبسط؛ حتَّى تكون مستولية على جسده كُلِّه، فالمئزر ما بين السُّرة والرُّكبة، والقميص من المنكبين إلى نصف السَّاق، والإزار يُغطِّي تمام البدن، فقال (عليه السلام): «وغُمِّضَ ومُدِّدَ، وَوُجِّهَ وَجُرِّدَ، وَغُسِّلَ وَنُشِّفَ، وسُجِّيَ وَبُسِطَ لَهُ، وَهُيِّءَ وَنُشِرَ عَلَيْهِ كَفَنُهُ، وَشُدَّ مِنْهُ ذَقْنُهُ، وَقُمِّصَ وعُمِّمَ، وَلُفَّ).
وما قيل في الفعل (جذبت نفسه) يقال ــ هنا ــ مع الفعل (نُشِرَ) في بنائه للمجهول؛ فقد بني للمجهول لأَمرين. أَحدهما: التَّركيز على الحدث، وهو بَسْطُ الكفنِ، وتفريقه، وتشعيبه على جسد الميِّت؛ ليكون مستولياً عليه. والآخر: أَنــَّه لا بُدَّ من حصول هذه الحال بصرف النَّظر عمَّن سيقوم بها.
و(نُشِرَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(عليه) على: حرف جرٍّ، والهاء: ضمير متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (نُشِرَ)، و(كفنه) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمير متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه). وجملة (ونُشِرَ عليه كفنه) معطوفة على جملة (وهُيِّء).
أَمَّا في المرَّة الثــَّانية، فكان هذا الفعل (يُنْشَر) بمعنى حياة الأَموات بعد الموت، وبعثهم من قبورهم للحساب، أَورده أَمير المؤمنين (عليه السلام) في بيان حال الإنسان في النَّشر، وما بعد الموت، فقال (عليه السلام): «فَيُنْشَرُ مِنْ قَبْرِهِ حِيْنَ يُنْفَخَ فِيْ صُوْرٍ، وَيُدْعَى بِحَشْرٍ وَنُشُوْرٍ».
ولعلَّ من قمين القول إنَّ هذا الفعل (يُنْشَرُ) جاء مبنيّاً للمجهول، وتقدَّم أَنَّ لحذف الفاعل، وإقامة المفعول مقامه معاني لفظيَّة ومعنويَّة ذكرها العلماء([10])، ومنها: 1 ــ التَّركيز على الحدث 2 ــ التَّعظيم. وكلاهما متحقِّق مع هذا الفعل؛ فأَمير المؤمنين (عليه السلام) أَراد أَنْ يركِّز على هذا الحدث، وهو: إحياء الميِّت بعد الموت، وبعثه للحساب، وأَراد في الوقت نفسه أَنْ يُعظِّم هذه العمليَّة، وما يحصل على الإنسان فيها من رعب وخوف وكشف، أَو يُعظِّم مَنْ يقوم بها من الملائكة.
(فَيُنْشَرُ) الفاء: حرف عطف، و(يُنْشَر) فعل مضارع مبنيٌّ للمجهول، مرفوع وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه جوازاً، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، و(من): حرف جرٍّ، و(قبره) اسم مجرور، وعلامة جرِّه الكسرة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمير متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بالإضافة، (ومن قبره) الجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (فُيْنشَرُ). وجملة (فينشر من قبره) معطوفة على جملة (ويقيم من قبره) ؛ إنْ كانت الفاء حرف عطف (فينشر))([11]).

الهوامش:
([1]). معجم مقاييس اللغة: 5/344.
([2]). الجمعة: الآية 10.
([3]). ينظر: العين: 2/4، وجمهرة اللغة: 1/451، وتهذيب اللغة: 4/96، والصحاح في اللغة: 2/208، ومفردات ألفاظ القرآن: 805، وأساس البلاغة: 1/473، ولسان العرب: 5/206، والمصباح المنير: 9/495، والقاموس المحيط: 2/14، وتاج العروس: 1/3534، ومعجم الألفاظ والأعلام القرآنية: 2/231.
([4]). ينظر: العين: 2/4، وأساس البلاغة: 1/473.
([5]). ينظر: جمهرة اللغة: 1/401.
([6]). عبس: 22.
([7]). ينظر: المصباح المنير: 9/294.
([8]). ينظر: تهذيب اللغة: 4/96، ومعجم مقاييس اللغة: 5/344، ومفردات ألفاظ القرآن: 805، ولسان العرب: 5/206، والقاموس المحيط: 2/14، وتاج العروس: 1/3534.
([9]). ينظر: المحيط في اللغة: 2/163.
([10]). ينظر: الفعل (جذبت) من الكتاب.
([11]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص217-221.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3486 Seconds