بقلم: الدكتور مصطفى كاظم شغيدل
الحمد لله الذي صدقنا وعده هي مقالة المتقين، وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
امتازت الخطبة المونقة لأمير المؤمنين عليه السلام والتي تسمى أيضا بـ(الخطبة الخالية من الألف) بكثرة الأفعال فيها، إذ وصلت إلى (170) فعل، فضلاً عما جاء مكرراً وبصيغة مختلفة؛ وهذه الخطبة مع أنها قيلت في موضع التندر لخلوها من الألف، غير أنها لم تكن خالية من الفكر بمختلف أبعاده، وهو على النحو الآتي:
تدلُّ مادَّة (حُثِيَ) في اللُّغة على ذَرْوِ الشَّيء. يُقال: حَثَى في وجهه التُّراب يَحْثِي حَثْياً ([1]). وحَثَى التُّرابَ عليه يَحْثُوْهُ ويَحْثِيهِ حَثْواً وحَثْياً، فَحَثَا التُّرابُ نفسُهُ يَحثُو ويحثي. والحَثَى كالثــَّرى: التُّراب المحثوُّ. وأَرض حَثْواء: كثيرة التُّراب ([2]).
وقال ابن فارس: «الحاء والثــَّاء والحرف المعتلُّ يدلُّ على ذَرْوِ الشَّيء الخفيف»([3]).
وأَورد أَمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الفعل (حُثِيَ) مرَّةً واحدة في الخطبة مبنيَّاً للمجهول؛ لبيان ما يجري على الميِّت بعد أَنْ يُجعل في ضريح ملحود، فَيُهال عليه عفره، ويُحثى عليه مَدَرُهُ، فقال (عليه السلام): «فَجُعِلَ فِيْ ضَرِيْحٍ مَلْحُوْدٍ، وَلَحْدٍ ضَيِّقٍ مَرْصُوْصٍ، بِلِبْنٍ مَنْضُوْدٍ، مُسَقَّفٍ بِجُلْمُوْدٍ، وهِيْلَ عَلَيْهِ عَفْرُهُ، وَحُثِيَ عَلَيْهِ مَدَرُهُ».
والمَدَرُ: هو قطع الطِّين اليابس المتماسك، وقيل: الطِّين العلك الَّذي لا رمل فيه، وقيل طين متحبِّب([4])؛ ولذا أَحسب أَنَّ المقصود بـ(حُثِيَ عليه مَدَرُهُ) أَحد أَمرين. وهو إمَّا أَنْ يكون طمَّ القبر وتربيعه، وهو ما يكون بالطِّين اليابس المتماسك، والطِّين العلك، وهو ما ذكره الفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (الدَّفن) بعد أَنْ يُجعل الميِّت في قبره، ويسُقَّف عليه، ويُهال عليه التُّراب، فيُطَمُّ القبر، ويُربَّع ([5]).
أَو أَنْ يكون المقصود به الطِّين الحاصل بعد رشِّ الماء على القبر بعد أَنْ يُطَمَّ، ويُربَّع؛ إذ ذكر الفقهاء في رسائلهم العمليَّة في باب (الدَّفن) أَنــَّه يُستحبُّ بعد طَمِّ القبر، وتربيعه رشُّ الماء دوراً يستقبل القبلة، ويبدأُ من عند الرأْس، فإنْ فضل شيء، صُبَّ على وسطه ([6]).
و(حُثِيَ) فعل ماضٍ مبنيٌّ للمجهول، مبنيٌّ على الفتح، و(عليه) على: حرف جرٍّ، والهاء: ضمير متَّصل مبنيٌّ على الكسر في محلِّ جرٍّ بحرف الجرِّ، عائد إلى (مَنْ جذبت نفسه)، والجارُّ والمجرور متعلِّقان بالفعل (حُثِي)، و(مَدَرُهُ) نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الضَّمَّة الظَّاهرة على آخره، وهو مضاف، والهاء: ضمير متَّصل مبنيٌّ على الضَّمِّ في محلِّ جرٍّ بالإضافة، عائد إلى (من جذبت نفسه). وجملة (وحثي عليه مدرُه) معطوفة على جملة (وهيل عليه عفرهُ)([7]).
الهوامش:
([1]). ينظر: العين: 1/231، والمحيط في اللغة: 1/246.
([2]). ينظر: تهذيب اللغة: 2/175، والمحكم والمحيط الأعظم: 2/66، ولسان العرب: 14/164، والقاموس المحيط: 2/408.
([3]). معجم مقاييس اللغة: 2/110.
([4]). ينظر: العين: 2/119/ومعجم مقاييس اللغة: 5/245، وتاج العروس: 2/119.
([5]). ينظر: منهاج الصالحين (للخوئي): 89، منهج الصالحين (للسيد الصدر): 81، وسبل السلام (لليعقوبي): 122.
([6]). ينظر: المصادر أنفسها: الصفحات أنفسها.
([7]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الأفعال في الخطبة المونقة للإمام علي عليه السلام بين الدلالة المعجمية والاستعمال الوظيفي: للدكتور مصطفى كاظم شغيدل، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص342-344.