بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
فأن مما ورد في نهج البلاغة حول الدنيا أنه عليه السلام ذكرها في خطبة وفيها يحذر من اتباع الهوى وطول الأمل في الدنيا، يقول عليه السلام:
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وطُولُ الأَمَلِ – إلى أن يقول عليه السلام:- أَلَا وإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ اصْطَبَّهَا صَابُّهَا، أَلَا وإِنَّ الآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، ولِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ؛ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، ولَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأَمِّه[1] يَوْمَ الْقِيَامَةِ وإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ ولَا حِسَابَ وغَداً حِسَابٌ ولَا عَمَلَ[2]) [3].
شرح الألفاظ الغريبة:
وطُولُ الأَمَلِ: هو استفساح الأجل، والتسوق بالعمل؛ الحَذّاء – بالتشديد -: الماضية لسريعة؛ الصُبابة – بالضمّ - : البقيّة من الماء واللبن في الإناء؛ اصطبّها صابّها: كقولك: أبقاها مبقيها، أو تركها تاركها[4].
شرح نهج ابن ميثم البحراني:
المقصود بهذا الفصل النهي عن الهوى وطول الأمل في الدنيا؛ فإنهما من أشد أسباب الهلاك، فكان الجلاء عنهما من أشد أسباب النجاة، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ، وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى}[5] ثم التذكرة بأمور الآخرة.
فاعلم أن الهوى: هو ميل النفس الأمّارة بالسوء إلى مقتضى طباعها من اللذات الدنيوية إلى حد الخروج عن حدود الشريعة.
وأمّا الأمل فقد سبق بيانه.
ولّما كانت السعادة التامّة إنّما هي في مشاهدة حضرة الربوبيّة ومجاورة الملأ الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وكان اتّباع النفس الأمّارة بالسوء في ميولها الطبيعية والانهماك في ملذاتها الفانية أشد مهلك جاذب للإنسان عن قصد الحق وصاد له عن سلوك سبيله وعن الترقي في ملكوت السماوات إلى حضيض جهنم كما قال سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، وهو متبع، وإعجاب المرء بنفسه[6]، وكما قال: حب الدنيا رأس كل خطيئة[7]، وقال: الدنيا والآخرة ضرتان بقدر ما يقرب من إحداهما يبعد من الأخرى[8].
لا جرم كان أخوف ما ينبغي أن يخاف من الأمور المهلكة: اتباع الهوى.
وأمّا الأمل: فمراده به أيضاً الأمل لما لا ينبغي أن يمد الآمل فيه من المقتنيات الفانية، وظاهر أن طول الأمل فيها يكون مطابقاً لاتباع الهوى، وبه يكون نسيان الآخرة؛ لأن طول توقع الأمور المحبوبة الدنيوية يوجب دوام ملاحظتها، ودوام ملاحظتها مستلزم لدوام إعراض النفس عن ملاحظة أحوال الآخرة، وهو مستعقب لانمحاء ما تصور في الذهن منها؛ وذلك معنى النسيان لها، وبذلك يكون الهلاك الأبدي والشقاء الأشقى.
ولما كان عليه السلام هو المتولي لإصلاح حال الخالق – في أمور معاشهم ومعادهم – كان الاهتمام بصلاحهم منوطاً بهمته العلية، فلا جرم نسب الخوف عليهم إلى نفسه.
قوله: ((ألا وإن الدنيا قد ولت)) إلى قوله: ((صابّها)).
أقول: الدنيا بالنسبة إلى كل شخص مفارقة له، وخفيفة سريعة الإجفال لم يبق منها بالقياس إليه إلاّ اليسير، وإطلاق الصبابة هاهنا استعارة لبقيتها القليلة، والقلّة هي وجه تشبيهها بصبابة الإناء أيضاً.
وقوله: ((ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت)):
لمّا نبّه على أنّ الدنيا سريعة الإجفال، أردف ذلك بالتنبيه على سرعة لحوق الآخرة وإقبالها، وكلّ ذلك قطع اللآمال الفانية وردع عن اتباع الهوى.
ومن آثار الصالحين: إذا كان العمر في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى، والموت هو دهليز الآخرة.
وقوله: ((ولكلّ منهما بنون)) إلى قوله: ((يوم القيامة)):
من لطائف كلامه [عليه السلام]، فاستعار لفظ الأبناء للخلق بالنسبة إلى الدنيا والآخرة، ولفظ الأب لهما.
ووجه الاستعارة أنّ الإبن لمّا كان في شأنه الميل إلى والده ميلاً طبيعياً، أو بحسب تصور المنفعة منه، وكان الخلق منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة، ويميل كل منهما إلى مراده مع ما يحصل من طرف الدنيا للراغبين فيها مما يتوهمونه لذة وخيراً وما يحصل من طرف الآخرة للراغبين فيها من اللذة والسعادة، أشبه كلّ بالنسبة إلى ما رغب فيه، واستفاد منه الخير الابن بالنسبة إلى الأب؛ فاستعير لفظه لتلك المشابهة.
ولما كان غرضه حثّ الخلق على السعي للآخرة، والميل إليها، والإعراض عن الدنيا؛ قال عليه السلام: فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا[9]، ثم ذكر فائدة رأيه عليهم بأن يكونوا كذلك، وهي أن كل ولد سيحلق بأمة يوم القيامة.
وأشار إلى أن أبناء الآخرة والطالبين لها والعاملين لأجلها مقربون في الآخرة لا حقوق لمراداتهم فيها، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم ما يدعون نزلاً من غفور رحيم.
وأمّا أبناء الدنيا فإن نفوسهم لما كانت مستغرقة في محبتها، وناسية لطرف الآخرة، ومعرضة عنها؛ لا جرم كانت يوم القيامة مغمورة في محبة الباطل، مغلوله بسلاسل السيّئات البدنية والملكات الرديئة المتمكنة من جواهرها، فهي لتعلقها بمحبة الدنيا، حيث لا يتمكن من محبوبها بمنزلة ولد لا تعلق له ولا مسكة إلا بوالده ولا إلف له إلاّ هو، ولا أنس إلاّ معه.
ثمّ حيل بينه وبينه مع شدة تعلقه به وشوقه إليه وأخذ إلى أضيق الأسجان، وبدل بالعزّ والهوان، فهو في أشدّ وله ويتم وأعظم حسرة وغمّ.
وأمّا أبناء الآخرة: ففي حضانة أبيهم ونعميه قد زال عنهم بؤس الغربة وشقاء اليتم، وسوء الحضن.
فمن الواجب إذن تعرّف أحوال الوالدين واتباع ابرهما وأدومهما شفقة، وأعظمهما بركة، وما هي إلاّ الآخرة، فليكن ذو العقل من أبناء الآخرة، وليكن براً بوالده متوصلاً إليه بأقوى الأسباب وأمتنها.
وقوله: ((وإنّ اليوم عمل)) إلى آخر:
كنّى باليوم عن مدّة الحياة وبغدٍ عما بعد الموت، وراعى المقابلة فقابل اليوم بالغد، والعمل بلا عمل، ولا حساب بالحساب.
واليوم: اسم إنّ، وعمل: قام مقام الخبر استعمالاً للمضاف إليه مقام المضاف: أي واليوم يوم العمل، ويحتمل أن يكون اسم إنّ: ضمير الشأن واليوم عمل: جملة من مبتدأ وخبر هي خبرها، وكذلك قوله: وغداً حساب ولا عمل.
وصدق هذين الحكمين ظاهر، وفائدتهما التنبيه على وقتي العمل وعدمه؛ ليبادروا إلى العمل، الذي به يكونون من أبناء الآخرة في وقت إمكانه قبل مجيء الغد، الذي هو وقت الحساب دون العمل، والله التوفيق[10])([11]).
الهوامش:
[1] في نهج البلاغة لصبحي صالح: لأبيه، والمثبت من نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ونهج البلاغة للمحقق العطار ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده.
[2] نهج البلاغة لصبحي صالح: 83-84/ من كلام له عليه السلام رقم42، نهج البلاغة للشيخ العطار: 103-104/ خطبة رقم42، وشح نهج البلاغة لابن ميثم 2: 106- 107/ من كلام له رقم 41، ونهج محمد عبده 1: 101- 102، من كلام له عليه السلام.
[3] ما ورد في نهج البلاغة لصبحي صالح وابن ميثم والشيخ محمد عبده فهو من كلام الإمام عليه السلام وفي نهج البلاغة للشيخ العطار: لهو من خطب الإمام عليه السلام.
[4] شرح الألفاظ الغريبة:580.
[5] النازعات: 37 – 41.
[6] الزهد: 68/ حديث رقم 180، المحاسن 1:3/ حديث رقم6.
[7] الكافي 2: 239/ ضمن الحديث رقم8، الخصال 1: 25/ حديث رقم 87.
[8] عوالي اللئالي العزيزية 1: 277/ حديث رقم 106.
[9] فقه الرضا عليه السلام: 370.
[10] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 2: 107- 109/ شرح كلامه عليه السلام رقم 41.
([11]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 31-36.