بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
فأن مما ورد في نهج البلاغة حول الدنيا أنه عليه السلام ذكرها في خطبة في التزهيد على الدنيا، فيقول: ((أَيُّهَا النَّاسُ[1] انْظُرُوا إِلَى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا، الصَّادِفِينَ عَنْهَا؛ فَإِنَّهَا واللَّه عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ، وتَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الآْمِنَ؛ لَا يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ، ولَا يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ. سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ، وجَلَدُ الرِّجَالِ فِيهَا إِلَى الضَّعْفِ والْوَهْنِ، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا، لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا.
رَحِمَ اللَّه امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ، واعْتَبَرَ فَأَبْصَـرَ، فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ، وكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآخِرَةِ عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَزَلْ، وكُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ، وكُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ، وكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَان[2])).
شرح الألفاظ الغريبة:
الصادفين المُعْرِضِين؛ الثاوي: المقيم، المُتْرَف: - بفتح الراء- المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع؛ مشوب مخلوط؛ الجلد: الصلابة والقوّة؛ الوهن: - بسكون الهاء وتحريكها - الضعف[3].
شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني:
حاصل الفصل: تزهيد الدنيا والتحذير منها، فأمرهم أن ينظروا إليها نظر الزاهدين فيها المعرضين عنها أمر لهم بتركها واحتقارها إلا بمقدار الضرورة إلى ما تقوم به الضرورة ثم أردفه بذكر معائبها المنفّرة.
فالأول: إزالتها للمقيم بها المطمئن إليها عما ركن إليه منها.
الثاني: فجيعتها للمترف المتنعم بها، الذي خدعته بأمانيها حتى أمن فيها بسلب ما ركن إليه وأمن عليه.
الثالث: كونها لا يرجع ما تولّى منها فأدبر من شباب، وصحة، ومال وعمر ونحوه.
الرابع: كونها لا يدري ما هو آت من مصائبها فينتظر ويحترز منه.
الخامس: شوب سرورها بالحزن؛ إذ كان مسرورها لا يعدم في كل أوانٍ فوت مطلوب أو فقد محبوب.
السادس: انتهاء قوة أهلها وجَلَدِهم إلى الضعفِ، كما قال تعالى:﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً﴾[4].
وزهد بعض الصالحين في الدنيا فقال: عيش مشوب بسقم منساق إلى هرم مختوم بعدم، مستعقب بندم هل يجوز التنافس فيه؟!
ثم نهى عن الاغترار بكثرة ما يعجبهم منها، وعلل حسن ذلك الانتهاء بقلة ما يصحبهم منها، فإن المنافسة إنما ينبغي ان يكون باقيا للإنسان حيث كان كان.
وأشار بقليل ما يصحبهم منها إلى الكفن ونحوه.
ثم دعا لمن تفكر فأفاده فكره عبرة: أي انتقال ذهن إلى ما هو الحق من وجوب ترك الدنيا والعمل للآخرة، فإفادة ذلك الانتقال إدراكاً للحق ومشاهدة ببصر البصيرة له.
ثم أردفه بتشبيه وجود متاع الدنيا الحاضر بعدمه؛ تنبيها على سرعة لحوق عدمه بوجوده، فكأن وجوده شبيه بأن لم يكن لسرعة زواله، وكذلك تشبيه عدم الآخرة الآن وما يحلق فيها من الثواب والعقب بوجودها الدائم: أي كأنها لسرعة وجودها ولحقوها لم تزل موجودة.
ونبه بقوله: ((وكل معدود منقض)): على انقضاء مدد الأعمار؛ لكونها معدودة الأيام والساعات والأنفاس.
وقوله: ((وكل متوقع آت وكل آت قريب دان))
في صورة الضرب الأول من الشكل الأول ونتيجته فكل متوقع قريب دان، والإشارة به إلى الموت وما بعده[5])([6]).
الهوامش:
[1] جملة (أيها الناس) اثبتت من نهج صبحي صالح، بقرينة ما بعد.
[2] نهج البلاغة لصبحي صالح: 148- 149/ خطبة رقم 103 ونهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار: 195-196/ خطبة رقم 102 وفي شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 3: 17/ خطبة رقم 100، وفي نهج الشيخ محمد عبده 1: 213- 214.
[3] شرح الألفاظ الغريبة: 612.
[4] الروم: 54.
[5] شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 3: 17- 18/ شرح الخطبة رقم 100.
([6]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 83-86.