بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
سُبْحَانَكَ خَالِقاً ومَعْبُوداً! بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً، وجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً: مَشْرَباً ومَطْعَماً وأَزْوَاجاً، وخَدَماً وقُصُوراً، وأَنْهَاراً وزُرُوعاً وثِمَاراً، ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا، فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا، ولَا فِيمَا رَغَّبْتَ إلَيْهِ رَغِبُوا، ولَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْه اشْتَاقُوا، أَقْبَلُوا [1] عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا، واصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا، ومَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَه، وأَمْرَضَ قَلْبَه، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ، ويَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ، قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَه، وأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَه، ووَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُه، فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا، ولِمَنْ فِي يَدَيْه شَيْءٌ مِنْهَا، حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا، وحَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا، لَا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّه بِزَاجِرٍ، ولَا يَتَّعِظُ مِنْه بِوَاعِظٍ، وهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ - حَيْثُ لَا إِقَالَةَ ولَا رَجْعَةَ- كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وقَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ، وحَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ...[2]
شرح الألفاظ الغريبة:
البلاء يكون نعمة ويكون نقمة ويتعين الأول بإضافة الحسن إليه أي ما عبدوك إلا شكراً لنعمتك عليهم؛ المأدبة: - بضم الدال وفتحها – ما يصنع من الطعام للمدعوين في عرس ونحوه، والمراد منها هنا نعيم الجنة؛ أعْشاه: أعماه؛ على الغرة: - بكسر الغين – بغتة وعلى غفلة[3].
شرح نهج ابن ميثم البحراني:
في هذا الفصل نكت:
الأولى: أن خالقاً ومعبوداً حالان انتصبا عما في سبحانك من معنى الفعل أي أسبحك خالقاً ومعبوداً، وأشار بذلك إلى وجوب تنزيهه في هذين الاعتبارين: أعني اعتبار كونه خالقاً للخلق، ومعبوداً لهم عن الشركاء والأنداد، فإنه لما تفرد بالإبداع والخلق، واستحق بذلك التفرد تفرده بعبادة الكل له وجب تنزيهه عن مساوٍ له في الاعتبارين.
الثانية: قوله: (( بحسن بلائك عند خلقك خلقت داراً)): الجار والمجرور متعلق بخلقت، ولفظ الدار مستعار للإسلام، ولفظ المأدبة للجنة، والداعي هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقد جمعها الخبر في بعض أمثاله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله جعل الإسلام داراً والجنة مأدبة والداعي إليها محمداً.
ووجه الاستعارة الأولى: أن الإسلام يجمع أهله ويحميهم كالدار.
ووجه الثانية: أن الجنة مجتمع الشهوات ومنتجع اللذات كالمأدبة.
ويحتمل أن يريد بالدار الآخرة باعتبار كونها مجمعاً ومستقراً، والمأدبة فيها الجنة، والمنصوبات الثمانية مميزات لتلك المأدبة، وظاهر ان وجود الإسلام والجنة والدعوة إليها بلاء حسن من الله لخلقه، وقد عرفت معنى ابتلائه تعالى.
وقال بعض الشارحين: إن قوله: ((بحسن بلائك)) متعلق ((بسبحانك)) أو ((بمعبود))، وهو بعيد.
الثالثة: قوله: ((فلا الداعي أجابوا...)) إلى قوله: ((بواعظ)): شرح لحال العصاة الذين لم يجيبوا داعي الله، وبيان لعيوبهم، وغرقهم في حب الباطل من الدنيا.
وفائدته: أم للمنتهين اللازمين لأوامر الله المجيبين لدعوته: فتنفيرهم عن الركون إلى هؤلاء، والوقوع فيما وقعوا فيه.
وأما لهؤلاء فتنبيههم من مراقد غفلاتهم بتذكيرهم عيوبهم لعلهم يرجعون، واستعار لفظ الجيفة للدنيا.
ووجه المشابهة أن لذات الدنيا وقيناتها في نظر العقلاء واعتبار الصالحين منفور عنها، ومهروب منها، ومستقذرة كالجيفة وإلى ذلك أشار الواصف لها:
وما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها
ويمكن أخذ معنى البيت الثاني في وجه الاستعارة المذكورة.
وكذلك استعار لفظ الافتضاح للاشتهار باقتنائها وجمعها، والخروج بها عن شعائر الصالحين.
ووجه الاستعارة أنه لما كان الإقبال على جمع الدنيا والاشتغال بها عن الله من أعظم الكبائر والمساوئ في نظر الشارع والسالكين لطريق الله وكان الافتضاح عبارة عن انكشاف المساوئ المتعارف قبحها؛ لا جرم أشبه الاشتهار بجمعها و انكشاف الحرص عليها الافتضاح، ويمكن أن يصدق الافتضاح هاهنا حقيقة.
وكنى بأكلها عن جمعها، وتحوز بلفظ الاصطلاح في التوافق على محبتها إطلاقاً لاسم الملزوم على لازمه؛ فإن الإصلاح عبارة عن التراضي بعد التغاضب، ويلزمه الاتفاق على الأحوال.
وقوله: ((ومن عشق شيئاً أعشى بصره وامرض قلبه)): كبر قياس دل على صغراه، وقوله: ((واصطلحوا على حبها)) لأن الاصطلاح على محبة الشيء يستلزم شدة محبته وهو معنى العشق:
ونتيجته: أن المذكورين في معرض الذم قد أعشت الدنيا أبصارهم وأمرضت قلوبهم، واستعار لفظ البصر لنور البصيرة ملاحظة لشبه المعقول بالمحسوس ولفظ العشاء، لظلمة الجهل؛ ملاحظة للشبه بالظلمة العارضة للعين بالليل، وإسناد الإعشاء إلى الدنيا يحتمل أن يكون حقيقة لما يستلزمه حبها من الجهل والغفلة عن أحوال الآخرة ويحتمل أن يريد بالبصر حقيقته ويكون لفظ العشاء مستعاراً لعدم استفادتهم بأبصارهم عبرة تصرفهم عن حب الدنيا إلى ملاحظة أحوال الآخرة ويؤيده قوله: ((فهو ينظر بعين غير صحيحة)).
وكنى بعدم صحتها عما يلزم العين غير الصحيحة من عدم الانتفاع بها في تحصيل الفائدة، وكذلك استعار لفظ المرض للداء الأكبر، وهو الجهل، استعارة لفظ المحسوس للمعقول.
وقوله: ((فهو يسمع بأذن غير سميعة)):
وكنى بذلك عن عدم إفادتها عبرة من المواعظ والزواجر الإلهية كما سبق، وكذلك استعار لفظ التخريق لتفرق عقله في مهمات الدنيا ومطالبها.
ووجه الاستعارة: أن العقل إذا استعمل فيما خلق لأجله – من اتخاذ الزاد ليوم المعاد، واقتباس العلم والحكمة من تصفح جزئيات الدنيا، والاستدلال منها على وجود الصانع وما ينبغي له، ونحو ذلك مما هو كماله المستعد في الآخرة – فإنه يكون منتظماً منتفعاً به.
وأما إن استعمل فيما لا ينبغي – من جميع متفرقات الدنيا، وتوزيع الهمة في تحصيل جزئياتها وضبطها حتى يكون أبداً في الحزن والأسف على فوات ما فات، وفي الخوف من زوال ما يحصل، وفي الهمة والحرص على جمع ما لم يحصل بعد – فإنه يكون كالثوب المخرق الذي لا ينتفع به صاحبه، ونحوه قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: من جعل الدنيا أكبر همه فرق الله عليه همه، وجعل فقره بين عينيه[4]، الحديث. ونسبة ذلك التخريق إلى الشهوات ظاهرة؛ إذ كان زمام عقله بيد شهوته، فهي تفرقه وتمزقه على حسب تصرفاتها وميولها إلى أنواع المشتهيات.
وكذلك استعار لفظ الإماتة لقلبه.
ووجه المشابهة: خروجه عن الانتفاع به الانتفاع الحقيقي الباقي كالميت، والضمير في قوله : ((عليها)) يعود إلى الدنيا: أي وولهت الدنيا على نفسها.
وكنى بالتوله عن شدة المحبة لها، وأطلقه مجازاً تسمية للشيء بما هو من غاياته، وكذلك استعار لفظ العبد له؛ لكونه محبها والمتجرد لتحصيلها متصرفاً بحسب تصريفها؛ ودائراً في حركاته حيث دارت، فإن كانت في يده أقبل عليها بالعمارة والحفظ وإن زالت عنه أنصت إلى تحصيلها وخدمة من كانت في يده لغرضها، فهو في ذلك كالعبد لها بل أخص حالاً كما قال عليه السلام في موضع آخر: عبد الشهوة أذل من عبد الرق[5]. إذا الباعث لعبد الرق على الخدمة والانقياد قد يكون قسرياً، والباعث لعبد الشهوة طبيعي، وشتان ما بينهما.
الرابعة: قوله: ((وهو يرى المأخوذين على الغرة)): فالواو في قوله: وهو للحال، وهو شروع في وصف نزول الموت بالغافلين عن الاستعداد له ولما وراء من أحوال الآخرة، وكيفية قبض الموت لأرواحهم من مبدأ نزوله بهم.. إلى لآخره وكيفية أحوالهم مع أهليهم وإخوانهم معه، وهو صف لا مزيد على وضوحه وبلاغته.
وفائدته: تذكير العصاة بأهوال الموت، وتنبيههم من غفلتهم في الباطل بذلك على وجوب العمل له، وتثبيت للسالكين إلى الله على ما هم عليه.
ومراده بقوله: ((ما كانوا يجهلون)): لا الموت فإنه معلوم لكل أحد، بل تفصيل سكراته وأهواله.
((وما كانوا يأمنون)): إشارة إلى الموت وما بعده، فإن الغافل حال انهماكه في لذات الدنيا لا يعرض له خوف الموت، بل يكون في تلك الحال آمنا منه.
وقوله: ((فغير موصوف ما نزل بهم)): أي ليس ذلك مما يمكن استقصائه بوصف، بل غايته التمثيل، كما ورد في التوراة: أن مثل الموت كمثل شجرة شوك أدرجت في بدن ابن آدم فتعلقت كل شوكة بعرق وعصب ثم جذبها رجل شديد الجذب فقطع ما قطع وأبقى ما أبقى.
وستعار لفظ الولوج لما يتصور من فراق الحياة لعضو عضو، فأشبه ذلك دخول جسم في جسم آخر.
وكذلك استعار لفظ العبء للآثام التي تحملها النفس، ورشح بذكر الظهر استعارة لفظ المحسوس للمعقول[6])([7]).
الهوامش:
[1] في نهج البلاغة للشيخ محمد عبده: (أجابوا) بدل (أقبلوا).
[2] نهج البلاغة لصبحي صالح: 159 – 160/ خطبة رقم 109، وفي نهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار: 211-212/ خطبة رقم 108، شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 3: 59-60/ خطبة رقم 106، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 228-229.
[3] شرح الألفاظ الغريبة: 615.
[4] انظر حلية الأولياء 10: 247، المعجم الوسيط للطبراني 5: 319/ 5، مجمع الزوائد 10: 247.
[5] غرر الحكم 2: 40/ 13.
[6] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 61-64/ في شرح الخطبة رقم 106.
([7]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 96-103.