الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام في خطبة يومي فيها إلى الملاحم ويصف فئة من أهل الضلال

سلسلة قصار الحكم

الدنيا في خطب الإمام علي عليه السلام قوله عليه السلام في خطبة يومي فيها إلى الملاحم ويصف فئة من أهل الضلال

2K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 07-08-2023

بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي

الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد:
في خطبة له عليه السلام في فناء الدنيا مخاطباً
وأَخَذُوا[1] يَمِيناً وشِمَالًا ظَعْناً[2] فِي مَسَالِكِ الْغَيِّ، وتَرْكاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ – إلى أن يقوله عليه السلام في الضلال: - وطَالَ الأَمَدُ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا الْخِزْيَ ويَسْتَوْجِبُوا الْغِيَرَ حَتَّى إِذَا اخْلَوْلَقَ الأَجَلُ ، واسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَى الْفِتَنِ ، وأَشَالُوا عَنْ لَقَاحِ[3] حَرْبِهِمْ ، لَمْ يَمُنُّوا عَلَى اللَّه بِالصَّبْرِ ، ولَمْ يَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْحَقِّ ، حَتَّى إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَلَاءِ ، حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهِمْ ، ودَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ.
 حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللَّه رَسُولَه (صلى الله عليه  وآله) رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الأَعْقَابِ ، وغَالَتْهُمُ السُّبُلُ واتَّكَلُوا عَلَى الْوَلَائِجِ ، ووَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ ، وهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِه ، ونَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِه فَبَنَوْه فِي غَيْرِ مَوْضِعِه ، مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وأَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ ، قَدْ مَارُوا فِي الْحَيْرَةِ وذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ ، عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ، مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى الدُّنْيَا رَاكِنٍ ، أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ[4].

شرح الألفاظ الغريبة:
الغير: - بكسر ففتح – أحداث الدهر ونوائبه؛ اخلولق الأجل: من قولهم: اخلولق السحاب، إذا استوى وصار خليقاً أن يمطر، والمراد أن الأجل يشرف على الانقضاء؛ أشالت الناقة ذنبها: رفعته أي رفعوا أيديهم بسيوفهم ليلحقوا حروبهم على غيرهم، أي يسعروها عليهم؛ حملوا بصائرهم على أسيافهم: من ألطف أنواع التمثيل، يريد أشهروا عقيدتهم داعين إليها غيرهم؛ الولائج: - جمع وليجة – وهي البطانة وخاصة الرجل من أهله وعشيرته، ويراد بها دخائل المكر والخديعة؛ الغمرة: الشدة؛ ما روا: تحركوا واضطربوا[5]

الشرح:
هذا الفصل يستدعي كلاماً منقطعاً قبله لم يذكره الرضي رضوان الله عليه، قد وصف فيه فئة ضالة قد استولت وملكت وأملى لها الله سبحانه.
وقوله: ((وطال الأمد بهم ليستكملوا الخزي)): كقوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}[6]
وقوله {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[7].
وقوله: ((حتى إذا خلولق الأجل)): أي صار خلقاً، وهو كناية عن بلوغهم غاية مدتهم المكتوبة بقلم القضاء الإلهي في اللوح المحفوظ.
وقوله: ((واستراح قوم إلى الفتن)): إشارة إلى من يعتزل الوقائع التي ستقع في آخر الزمان في شيعة الحق وأنصاره.
ويستريح إليها: أي يجد في اشتغال القوم بعضهم ببعض راحة له في الانقطاع والعزلة والخمول، واشتيالهم عن لقاح حربهم: رفعهم لأنفسهم عن تهييجها، واستعار لفظ اللقاح بفتح اللام لإثارة الحرب ملاحظة لشبهها بالناقة.
وقوله: ((لم يمنوا)): جواب قوله: ((حتى إذا خلولق))، والضمى في يمنوا، قال بعض الشارحين: إنه عائد إلى العارفين الذين تقدم ذكرهم في الفصل السابق يقول: حتى إذا ألقى هؤلاء السلم إلى هذه الفئة الضالة، وعجزوا واستراحوا من منابذتهم إلى فتنتهم تقية منهم، أنهض الله أولئك الذين خصهم بحكمته واطلعهم على أسرار العلوم فنهضوا ولم يمنوا على الله تعالى بالصبر في طاعته.
وفي رواية: بالنصر: أي بنصرهـم له، ولم يستعظموا ما بذلوه من نفسوهم في طلب الحق، حتى إذا وافق القدر الذي هو وراد القضاء وتفصيله انقطاع مدة هذه الفئة وارتفاع ما كان شمل الخلق من بلائهم حمل هؤلاء العارفون بصائرهم على أسيافهم، وفيه معنى لطيف يريد أنهم أظهروا عقائد قلوبهم للناس، وكشفوها وجردوها مع تجريد سيوفهم، فكأنهم حملوا على سيوفهم فترى في غاية الجلاء والظهور كما ترى السيوف المجردة.
ومنهم من قال: أراد بالبصائر جمع بصيرة: وهي الدم فكأنه أراد طلبوا ثارهم والدماء التي سفكتها تلك الفئة، فكانت تلك الدماء المطلوب ثارها محمولة على أسيافهم المجردة للحرب، وأشار بواعظهم إلى الإمام القائم.

وأقول: يحتمل أن يريد بالضمير في يمنوا وما بعده القوم الذي استراحوا إلى الفتنة واشتالوا عن لقاح الحرب، وذلك أنهم لم يفعلوا ذلك إلا لأنه لم يؤذن لهم في القيام حين استراحتهم وإلقائهم السلم لهذه الفئة، ولم يتمكنوا من مقاومتهم لعدم قيام القائم بالأمر، فكانوا حين مسالمتهم صابرين على مضض من ألم المنكر الذي يشاهدونه غير مستعظمين لبذل أنفسهم في نصرة الحق، لو ظهر من يكون لهم ظهر يلجأون إليه حتى إذا ورد القضاء الإلهي بانقطاع مدة بلاء هذه الفئة، وظهور من يقوم بنصر الحق ودعا إليه حمل هؤلاء بصائرهم على أسيافهم وقاموا لربهم بأمر من يقوم فيهم واعظاً ومخوفاً وداعياً، وهذا الحمل يرجحه عود الضمير إلى الأقرب وهم القوم.
وقوله: ((حتى إذا قبض الله رسوله صلى الله عليه وآله...))  إلى آخره.
هذا الفصل منقطع عما قبله، لأن صريحه ذكر غاية الاقتصاص حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحال الناس قبله وبعده ومعه، وليس في الكلام المتقدم شيء من ذلك اللهم إلا أن يحمل من طال الأمد بهم في الكلام المتقدم على من كان أهل الضلال قبل الإسلام، حتى إذا خلولق أجلهم واستراح قوم منهم إلى الفتن والوقائع بالنهب والغارة.
((واشتلوا عن لقاح حربهم)): أي أعدوا أنفسهم لها كما تعد الناقة نفسها بشول ذنبها للقاحها: أي برفعه، وتسمى شائلاً، ويكون الضمير في قوله ((لم يمنوا)) راجعاً إلى ذكر سبق للصحابة في هذه الخطبة حين قام الرسول صلى الله عليه وآله فيهم وبهم للحرب فلم يمنوا على الله بصبرهم معه وفي نصرة الحق، ولم يستعظموا بل أنفسهم له حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدة البلاء بدولة الجاهلية من الإسلام في أوله على سيوفهم: أي كشفوا عقائدهم كما سبق القول فيه، أو دمائهم وثاراتهم من الكفار، ودانوا لربهم بأمر واعظهم وهو الرسول صلى الله عليه وآله، وحينئذٍ يصلح قوله: ((حتى إذا قبض الله رسوله)) غاية لذلك الكلام على هذا التأويل.
وقوله: ((رجع قوم على الأعقاب...)) إلى آخره.
أما على مذاهب الإمامية: فإشارة إلى عدول الصحابة بالخلافة عنه وعن أهل بيته عليهم السلام إلى الخلفاء الثلاثة.

وأما على مذهب من صحح إمامة الخلفاء الثلاثة، فيحتمل أن يريد بالقوم الراجعين على الأعقاب من خرج عليه في زمن خلافته من الصحابة كمعاوية وطلحة والزبير وغيرهم، وزعموا أن غيره أحق بها منه ومن أولاده.
والرجوع على الأعقاب كناية عن الرجوع عما كانوا عليه من الانقياد للشريعة وأوامر الله ورسوله ووصيته بأهل بيته عليهم السلام، وغيلة السبل لهم كناية عن اشتباه طرق الباطل بالحق واستراق طرق الباطل لهم وإهلاكها إياهم، وهي الشبه المستلزمة للآراء الفاسدة كما يقال في العرف: أخذته الطرق إلى مضيق، وهي مجاز في المفرد والمركب: أما في المفرد فلأن سلوكهم لسبل الباطل لما كان من غير علم منهم بكونه باطلاً ناسب الغيلة فأطلق عليها لفظها.
وأما في المركب: فلأن إسناد الغيلة إلى السبل ليس حقيقة، إذ الغيلة من فعل العقلاء، واتكالهم على الولائج اعتماد كل من رأى منهم رأياً فاسداً على أهله وخواصه في نصرة ذلك الرأي.
((ووصلوا غير الرحم)) أي غير الرسول صلى الله عليه وآله وترك المضاف إليه للعلم به.
وكذلك ((هجروا السبب الذي أمروا بمودته)): ولزومه يريد أهل البيت عليهم السلام أيضاً، وظاهر كونهم سبباً لمن اهتدى بهم في الوصول إلى الله سبحانه كما قال الرسول صلى الله عليه وآله: خلفت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض لم يفترقا حتى يراد علي الحوض[8].
فاستعار لهم لفظ الحبل، والسبب في اللغة الحبل وأمرهم بمودته كما في قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}[9]
وقوله: ((ونقلوا البناء عن رص أساسه، فبنوه في غير موضعه)):
إشارة إلى العدول بأمر الخلافة عنه وعن أهل بيته عليهم السلام إلى غيرهم، وصلة غير الرحم خروج عن فضيلة العدالة إلى رذيلة الظلم، وعدم مودة أولي القربى رذيلة التفريط من تلك الفضيلة الداخلة تحت العفة، وكذلك نقل البناء عن موضعه دخول في رذيلة التفريط من تلك الفضيلة الداخلة تحت العفة، وكذلك نقل البناء عن موضعه دخول في رذيلة الظلم.
ثم وصفهم وصفاً إجمالياً بكونهم معادن كل خطيئة: أي إنهم مستعدون لفعل كل خطيئة، ومهيئون لها، فهم مظانها، ولفظ المعادن استعارة.
وكذلك ((أبواب كل ضارب في غمرة))، واستعار لفظ الأبواب لهم باعتبار أن كل من دخل في غمرة جهالة أو شبهة يثير بها فتنة، واستعان بهم فتحوا له ذلك الباب وساعدوه وحسنوا له رأيه فكأنهم بذلك أبواب له إلى مراده الباطل يدخل منها.
وقوله: ((قد ماروا في الحيرة)): أي ترددوا في أمرهم فهم حائرون لا يعرفون جهة الحق فيقصدونه.
((وذهلوا)): أي غابت أذهانهم في ((سكرة)) الجهل فهم ((على سنة من آل فرعون)) وطريقته، وإنما نكر السنة لأنه يريد بها مشابهتهم في بعض طرائقهم، وآل فرعون أتباعه.

وقوله: ((من منقطع إلى الدنيا...)) إلى آخره.
تفصيل لهم باعتبار كونهم على سنة من آل فرعون فمنهم المنقطع إلى الدنيا المنهمك في لذاتها المكب على تحصيلها، ومنهم المفارق للدين المباين له وإن لم يكن له دنيا، والمنفصلة مانعة الخلو بالنسبة إلى المشار إليهم.
 ويحتمل أن يريد مانعة الجمع، ويشير بمفارق الدين إلى من ليس براكن إلى الدنيا ككثير ممن يدعي الزهد مع كونه جاهلاً بالطريق فتراه ينفر من الدنيا ويحسب أنه على شيء مع أن جهله بكيفية سلوك سبيل الله يقوده يميناً وشمالاً عنها، وبالله التوفيق[10])([11]).

الهوامش:
[1] شرح نهج البلاغة للشيخ محمد عبده: (وأَخَذَ) بدل (وَأَخَذُوا).
[2] في شرح نهج البلاغة لابن ميثم ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده: (طعْناً) بدل (ظَعْناً).
[3] في نهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار ونهج الشيخ محمد عبده: (لِقَاح) بدل (لَقَاحِ).
[4] نهج البلاغة لصبحي صالح: 208- 209، خطبة رقم 150، ونهج البلاغة للمحقق الشيخ العطار: 276-278/ خطبة رقم 150، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم 3: 213-216/ خطبة رقم 149، ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده 1: 288-290.
[5] شرح الألفاظ الغريبة: 627-628.
[6] آل عمران: 178.
[7] الإسراء: 16.
[8] نهج الحق وكشف الصدق: 226. باختلاف في بعض ألفاظه؛ وهناك ألفاظ أخرى لهذا الحديث.
[9] الشورى: 23.
[10] شرح نهج البلاغة لابن ميثم 216-220/ شرح الخطبة رقم 149.
([11]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 147-154.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2808 Seconds