من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة/ علف الإبل واجترارها وعطشها 2- الهِيْم/ قال عليه السلام ((وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ))

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة/ علف الإبل واجترارها وعطشها 2- الهِيْم/ قال عليه السلام ((وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ))

54 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 28-01-2025

بقلم: د. حسام عدنان الياسري.

الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله، مانع كل غنيمة وفضل، وكاشف عظيمة وأزل، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الاطهار.

وبعد:
الهَيْمَان العَطْشَان[1]. والهِيْم الإبل العِطاش التي يصِيبها الدَّاء، وهو مرض يكسبها العطش، فتمص الماء مصاً، ولا تروى. واحدها أَهْيَم[2]. يقال: هامَتْ دوابنا، إذا عَطِشَتْ[3]. ومن ذلك أيضاً الهُيَامُ، وهو داءٌ يصيب الإبل من ماءٍ تشربه مستنقعاً، فيصيبها الجنون والدوار حتى تهلك[4]. وقد وردت لفظة (الهِيْم) أربع مرات في نهج البلاغة[5]؛ للدلالة على الإبل العطشى التي ترسل إلى وردها لتشرب. وقد استعمل الإمام (عليه السلام) هذه المفردة في مقام التشبيه. ومن ذلك قوله (عليه السلام) في مدح عترة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذين هم منار الهدى، وأعلامه القائمة. كما في قوله الذي يعجب فيه من تيه الناس وحيرتهم، وفيهم عترة النبي الأكرم: ((... فَأَيْنَ يُتَاهُ[6] بِكُمْ؟ أو كَيْفَ تَعْمَهُونَ[7] وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ؟ وَهُمْ أَزِمَّةُ[8] الْحَقِّ، وأَعْلاَمُ[9] وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ! فأنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ))[10] والنص مبدوء بالاستفهام الذي أخرجه الإمام للعجب والانكار على الناس الذين يتيهون في حيرة، ويتردون في الضلالة، وبينهم عترة النبي ونسله وأخص أهل بيته، وهم أولاد علي وفاطمة (عليهم السلام)[11]. وهؤلاء هم أزمة الحق الذين يقاد بهم الدين ويوجه، وهم الأعلام التي يهتدي بها الضلال في دينهم، وألسنة الصدق. ولما كانت هذه الخصال والصفات لا تتوافر إلاّ فيهم، لهذا أرشد (عليه السلام) إلى إنزالهم في أحسن منازل القرآن الكريم، ودعا إلى الورود من علومهم وأخلاقهم كما ترد الإبل العطشى التي أصابها داء العطاش. وهذا الضرب من الإبل يُسرع إلى الماء وهي متهالكة يدك بعضها بعضاً مما بها من العطش. 

أقول: يريد بهذا التعبير حث الناس على الرجوع إلى أهل البيت (عليه السلام)، والنهل من علومهم، مشبها هذا الرجوع بورود الأباعر الهيام الماء، فحذف أداة التشبيه لجعل التشبيه أقوى وأمكن بين الطرفين (المشبه، والمشبه به). ووجه الشبه هو الرّي والورد، والإفادة من أتباع الأئمة (عليه السلام). ويبدو أن توظيف مفردة (الهِيْم) في هذا السياق جاء لأمرين؛ الأول محاكاة الناس بما يعتادون عليه في حياتهم الاجتماعية اليومية من خلال ملازمتهم للإبِلِ، ومعرفتهم بأحوالها وطبائعها وما يجري عليها عند عطشها، ولهذا أتبع الإمام المفردة المتقدمة بلفظة (العِطَاش)، - بالكسر- وهي شدة عطش الإبل[12].

كأنّه يريد القول. إن هيامكم وشدة عطشكم إلى علومهم ومعارفهم ينبغي أنْ يكون في أقصى غاياته، حتى كأنكم مصابون بداء العُطَاش الذي لا يروى من الماء من أُصيب به والأمر الثاني- ولعله مقدم على سابقه - إفادته (عليه السلام) من الاستعمال القرآني الذي وردت فيه لفظة (الهِيْم)،وذلك في قوله تعالى شأنه: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}[13] وهذه المفردة انتضمت في سياقٍ يتحدث فيه الذكر الكريم عن كُفّار قريش، ومن هم في حالهم [14]، واصفاً إياهم (بالضّالين المكذبين)؛ إذ يقول تعالى {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآَكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيم} [15]. والنص يشير إلى عقاب أولئك الضالين عن طريق الله تبارك وتعالى، والبعيدون عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) المكذبون بنبوته ورسالة السماء، ولهذا ذكر القرآن الكريم عقابهم بأنهم لآكلون من شجرٍ من زقوم الذي هو طعام الأثيم،  وشاربون عليه من الحميم، وهو الماء الحار كما يرى المفسرون[16]، وهو حميم نار جهنم. أما (شِرْب الهِيْم)، فقد أجمع المفسرون على أنّ المراد به هو شرب الإبل الهيام التي بها داء الاستسقاء، فلا تكاد تروى؛ لأنه مرضٌ معطش للإبل فإمّا أن يميتها، أو تسقم به سقماً شديداً[17].

 ومن خلال الموازنة بين السياق القرآني وسياق كلام الإمام (عليه السلام) نلحظ التقارب بينهما في بعض المفردات، وفي صورة (شِرْب الإبل الهِيْم للماء)، فكلا النصينِ يصوران حالة الورد التي عليها الإبل العَطْشَى، ولكن القرآن يجعل من هذه الصورة إشارة إلى تشبيه شرب الضالين للحميم عقاباً لهم على تمرّدهم وخروجهم عن طاعة الله تبارك وتعالى. والنص العلوي يصور الدعوة إلى الورد من علوم أهل البيت وأخلاقهم، كما ترد الإبل العطشى ذوات داء العطاش. كأن الإمام (عليه السلام) يوصي هؤلاء أن يحرصوا على اتباع عترة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله)؛ والسير على خطاهم، لئلاّ يصيبهم ما أصاب (الضالين المكذبين) الذين ذكرهم الله تبارك ووتعالى في سورة الواقعة. وثمة مواضع أخرى وردت فيها لفظة (الهِيْم) للدلالة على العطاش من الإبل، وذلك في (خ/54، 107، 229) من نهج البلاغة) ([18]).

الهوامش:
[1] ينظر: العين (هيم): 4/101.
[2] ينظر: تهذيب اللغة (هيم): 6/246، 247، والنهاية في غريب الحديث: 5/288.
[3] ينظر: النهاية في غريب الحديث: 5/288.
[4] ينظر: لسان العرب (هيم): 12/626.
[5] ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة: 471.
[6] التَّيْهُ الحَيْرَة والضَّلال. ينظر: النهاية في غريب الحديث: 1/203.
[7] عَمَهَ يَعْمَهُ، إذاِ تَرَدّى في الضّلالة. ينظر: العين (عمهِ): 1/101.
[8] الزَّمُّ الشَدُّ، والأزِمّةُ جمع (زِمَام)، وهو الحَبْل الذي يجعل في الخشبة التي توضع في أنف البعير ليقاد. ينظر: المحكم (زمم): 9/16.
[9] العَلَمُ شيء يُنْصَب في الفلوات لتهتدي به الضالة. ينظر: المحكم (علم): 2/176.
[10] نهج البلاغة: خ/87: 143.
[11] ينظر: المحكم (عتر): 2/44، والنهاية في غريب الحديث: 3/177.
[12] ينظر: تاج العروس (عطش): 17/268.
[13] الواقعة / 55.
[14] ينظر: المحرر الوجيز: 5/247.
[15] الواقعة / 51 – 55.
[16] ينظر: تنوير المقباس: 1/454، وروح المعاني: 27/547.
[17] ينظر: الكشاف: 4/462، والمحرر الوجيز: 5/547.
([18]) لمزيد من الاطلاع ينظر: ألفاظ الحياة الاجتماعية في نهج البلاغة: للدكتور حسام عدنان رحيم الياسري، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 107-110.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2995 Seconds