بقلم: د. جليل منصور العريَّض
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
أما بعد:
الحقوق التي يتعين على الفرد مزاولتها لتكتمل سعادته ـ كما يرى علي عليه السلام ـ متعددة منها:
حق الأمة وحق الوالي
لكن الحياة لا تستقر، والإنسان لا يطمئن، والأعراض لا تصان والعلم لا ينتشر إلا إذا ضمنت الحكومة حقوق الناس، وضمن الناس حقوق الحكومة، وتبدو هذه الحقوق المتبادلة من أهم الحقوق الأخلاقية في فكر علي بن أبي طالب عليه السلام ، ويمكن استخلاص ذلك من قوله «وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الولي فريضة فرضها الله ـ سبحانه ـ لكل على كل، فجعلها نظاماً لإلفتهم وعزاً لدينهم... فإذا ادت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل... فصلح بذلك الزمان»([1]) فالعمل بالدين، وانتشار العدل وصلاح المجتمع كلها عناصر خلقية، تعتمد في الدرجة الأولى على تبادل حقوق التزاميه تفرضها طبيعة الحياة على كلا الطرفين لأنهما يكملان بعضهما بعضاً ابتغاء الخير والسعادة للإنسان والإنسانية، وهذه الحقوق ـ كما يراها علي عليه السلام ـ هي:
اولاً - حق الأمة على الوالي:
لن نعرض هنا الا للحقوق المتصلة اتصالاً مباشراً بالجانب الأخلاقي([2])، المتمثل - أولاً وقبل كل شيء - في وجوب تواضع الحاكم للمحكومين، وعدم الترفع عليهم وازدرائهم بالنظر إليهم من عمل بحكم مركزه السياسي، يقول علي عليه السلام بشأن الحقوق المفروضة على الوالي «أن لا يغيره على رعيته فضل ناله ولا طول خص به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمة دنوا من عباده وعطفا على إخوانه»([3]) ويترتب على ذلك رفع الظلم عن كاهل المستضعفين برد الحقوق وإنصاف المظلوم والانتصاف من الظالم([4])، دون اعتبار لقرابة أو صداقة أو محسوبية بإلزام «الحق من لزمه من قريب أو بعيد»([5]) بالإضافة إلى ذلك فمن حق الأمة على الوالي إرشادهم بالنصيحة الخالصة، وإزالة الجهل من نفوسهم، وزرع الفضيلة ونشرها فيما بينهم([6]) باللين والعطف أو بالقوة إن اقتضت الضرورة لذلك فإذا ما تأكدت تلك الحقوق من قبل الحكومة تجاه المحكومين، وجب على المحكومين في المقابل تأدية ما عليهم من الحقوق تجاه الحكومة.
ثانياً ـ حق الوالي أو الحكومة على الأمة:
ويكمن ذلك الحق -كما يبدو في فكر الإمام علي عليه السلام - في ثلاثة بنود يجمعها قوله «الوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب والاجابة حين (يدعون) والطاعة حين (يؤمرون»)([7]) ذلك على أساس أن الحكومة قد أدت حقوقها وقامت بالتزاماتها تجاه الأمة.
فالحق بمعناه الخلقي في فكر الإمام علي عليه السلام ـ كما يبدو في نهج البلاغةـ واسع وعميق ومتعدد الميادين التي يصول الإنسان فيها ويجول، آخذاً في طريقه بجميع القيم الإنسانية التي يحتاجها الفرد كزاد يغذي الروح لتتمكن من الثبات بإحكام في مواجهة مغيرات الحياة، متفاعلة مع مجتمعها تفاعلاً ايجابياً يعود بالخير العميم على كل الشرائح الاجتماعية. ولكن لن يتأتى للعدل والحق أن يصانا إلا إذا جعلا من التقوى سياجاً لهما.
ثالثاً ـ التقوى:
يفسر المعجم اللغوي التقوى بالحذر والخوف([8])، وهو بذلك لا يعطي للمعنى بعده الأخلاقي، اما المعنى الشرعي للتقوى فهو «حفظ النفس مما يؤثم بترك المحظور»([9]) وهو تعريف يتفق مع التعريف الأخلاقي الحديث لهما، والمتمثل في القول بأنها «سلطة تطالب من اعماق القلب، بتقديم حسابات، ويقوم اساسها الأول ذو الجوهر الديني في النفس الإنسانية التي لا تنفك تنفذ وتراقب»([10])، فالتقوى على هذا الأساس شعور داخلي تكمن فيه «قوة من غريب امرها انها تجمع بين هذه السلطات الثلاث: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية»([11]) فعن طريق هذا الشعور تميز بين الخير والشر، وبها أيضاً تنزع إلى طريق الصواب، فبالتقوى يتمكن الفرد من الحكم على صحة الطريق الذي يسلكه في معاملات وتصرفاته، فهي تعاقب عقاباً معنوياً قوامه وخز الضمير، وتثيب ثواباً معنوياً أساسه الاطمئنان وراحة الضمير. فالتقوى بمفهومها هذا، أصل الأخلاق، فلو تصورنا أن القيم الخلقية مجموعة من الفروع والأعصان المورقة والمغدقة فإن التقوى ستكون لا محالة الجذع الذي تنبثق من أصوله تلك الأغصان وتتغذى منه، فهي الشريان الحيوي الذي يمد الأخلاق بالنبض ويجعلها في كفاح دائم ومستمر ضد كل أساليب الحياة الملتوية، في كل زمان، وفي أي مكان، لأنها «عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصي، وفعل ما يستطاع من الطاعات... واتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن القوم»([12]) فهي على ذلك ضابطة ومنظمة لحياة الإنسان في جميع نواحي الحياة الدنيوية، وإعداده لثواب الآخرة بتبصيره بالموبقات في الحياة الدنيا، وليس ادل على ذلك من قوله تعالى:
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}([13]))([14]).
الهوامش:
([1]) خطب ـ 210 فقرة 2 وراجع أيضاً ضمن الخطبة ما سيؤول إليه المجتمع من انهيار في حالة تضييع الوالي لحق الرعية وتضييع الرعية لحق الوالي في نفس الفقرة.
([2]) لأننا عرضنا للحقوق من الناحية السياسية في ص 364 وما بعدها من هذا البحث.
([3]) رسائل ـ 50.
([4]) راجع الخطبة ـ 136.
([5]) رسائل ـ 53 الفقرة 31.
([6]) راجع الحقوق التي فرضها علي عليه السلام لرعيته على نفسه ضمن الخطبة 34، الفقرة 2.
([7]) خطبة 34 الفقرة 2.
([8]) راجع لسان العرب المحيط 3/971، المعجم الوسيطة 2/1052.
([9]) الراغب الاصفهاني ـ المفردات في غريب القرآن ص 833.
([10]) مارسيل بوازار ـ انسانية الإسلام ص 60.
([11]) منصور رجب ـ تأملات في فلسفة الأخلاق 228.
([12]) محمد رشيد رضا ـ الوحي المحمدي ص 213.
([13]) البقرة/177.
([14]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 451-455.