الألفاظُ التي تدلُّ على الأعمال الزراعية وما يتعلق بها في نهجِ البلاغةِ: 1- الحَرْثُ

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

الألفاظُ التي تدلُّ على الأعمال الزراعية وما يتعلق بها في نهجِ البلاغةِ: 1- الحَرْثُ

50 مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-02-2025

بقلم: الدكتور سحر ناجي المشهدي

الحمد لله الأول قبل الإنشاء، والآخر بعد فناء الأشياء، أحمده استتمامًا لنعمته، واستعصاماً من معصيته، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على من اصطفى من الخلق أجمعين سيدنا ونبينا محمد وآل الطاهرين..

اما بعد:

ورد هذا اللفظ اثنتي عشرة مرة في النَّهْج ليدل على:
1) الحَرْث الحقيقي (المادي): ويعني تهيئة الارض لزراعتها، ورد مرة واحدة في كلام الامام: في بيان خلقة الجرادة: «يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهمْ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا، وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِم، حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا، وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً»([1])،  فـ(حتى)  بمعنى:  الى ان،  الى ان ترد الزرع في وثباتها مبادرة اليه.

2) الحـَرْث المجازي: العمل للدُّنيا والآخرة، جاء الحـًرْث في كلام الإمام علي (عليه السَّلام) ليدل على المَّال والبنين والعمل الصالح، ما يصنع لينتفع به، فجاء (مرفوعا على كونه خبرا، ومجرورا، واسم فاعل، واسما منادى) فجاء المصدر منه مفردا معرفا بالإضافة نحو» حرث الدنيا» و» حرث الاخرة» واسما علما كـ» عبيدة بن الحارث» مالك بن الحارث؛ ومنادى كـ» يا حارث»، فالمصدر منه وقع
أ) خبرا مرفوعا لـ(إنً) المشبهة بالفعل مضافا الى الدنيا والآخرة: قال في معرض حديثه في تهذيب الفقراء: « إِنَّ المَالَ وَالبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الاْخِرَةِ»([2])،  ونجد التقابل الدلالي بين حرث الدنيا (المادي)  وهو هنا المال والبنون،  وحرث الآخرة (المجازي) وهو العمل الصالح.

ب) اسما مجرورا مسبوقا بحرف الجر (الى) الذي يدل على انتهاء الغاية المكانية، وكلاهما مسبوقا بالفعل المبني للمجهول (دُعـِيَ) مما يدل على كون الدعوة عامة شاملة غير محددة لعالَم معين، قال في حديثه عن صفة العالِمُ: «ان دُعِيَ الى حَرْثِ الدٌنيا عَمِل، وان دُعِيَ الى حَرْثِ الاخرة كَسِل! كأنً ماعَمِل له واجب عليه، وكأنً ماوَنَى فيه ساقِط عنه»([3]).
قابل تقابلا ضديا بين معانٍ: (حرث الدنيا وحرث الآخرة، عمل وكسل، ما عمل وماونى) وهما صورتان مختلفتان، قال د. أحمد مطلوب: « إنَّ في مقابلة الأضداد يبرز المعنى وقد قيل والضد يظهر حسنة الضد»([4]).

  فاستعار لفظ الحـَرْث لأعمال الدنيا وأعمال الآخرة، ووجه المشابهة كونها مستلزمة للمكاسب الأخروية والدنيوية كما أنَّ الحرث كذلك، ثم شبًه ما عمل له من حرث الدنيا بالواجب عليه في مبادرته اليه ومواظبته عليه، وشبه ما قصر عنه من حرث الاخرة بالساقط عنه فرضه في تكاسله وقعوده عنه مع ان الامر منه ينبغي ان يكون بالعكس([5]).
  ورد اسم الفاعل (حارث) الذي يدل على من قام بصفة الحرث، منكرا مجروراً مسبوقا ب(كل) وهي من الأسماء الملازمة للإضافة التي دلت على عموم وشمول كل من مارس صفة الحرث (للزراعة) ؛ لكنه استثنى بالاسم (غير)  حرثة القران،  لنتأمل قوله في فضل القران: « ألا إنً كـُلً حـَارثٍ مـُبْتَلى في حـَرْثِهِ وعاقبةِ عملِهِ،  غيرَ حـَرَثَةِ القرانِ،  فكونوا من حَرَثَتِهِ وأتْبَاعِهِ»([6]).  فـ(حارث) اسم فاعل سبق بـ(كل) الملازمة للإضافة، ويعني بالحَرث هنا الكَسْب، فحَرَثة على زنة (فَـَعْلـَة) جمع كثرة، وهو اسم معرفة ويقصد به العاملين به أو المتاجرين به، وأهل درسه، والمسهرين لياليهم في تلاوته فلا تلحقهم البلوى والإمتحانات، بل هم في أمان([7]).
و(حَرَثَة ِ) على زنة (فَعَلَةِ) جمع قلة لـ(حارث) مضاف مجرور سُبِق بـ(غير) الاستثنائية، والحَرَثة هم مستثيروا دفائنه وكنوزه، والاستثناء تام متصل موجب، والابتلاء: الامتحان أو ما يلحق النفس على الأعمال وعواقبها من الخروج من العذاب بقدر الخروج فيها عن طاعة الله، وظاهر أنَّ حَرْثُ القرآن والبحث عن مقاصده لغاية الاستكمال به بريء من لواحق العقوبات، وقد حثهم على أن يكونوا من حرثته وأتباعه ويتخذوه دليلا قائدا إلى ربهم([8]).
 الاحتراث من الزًرع، ومن كَسْب المال، والحَرْث: قذفك الحَبً في الأرض، والإحْراث: هُزْل الخَيْل، يقال: أحرثنا الخيل وحرثناها([9]).
  فــ» الحاء والراء والثاء اصلان متفاوتان: أحدهما الجمع والكَسْب، والاخر أن يُهْزَل الشيء فالأول الحَرْث، وهو الكَسْب والجمع، وبه سمي الرجل حارثا.  وفي الحديث: «احرث لدنياك كأنك تعيش ابدا، واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا». ومن هذا الباب حرث الزًرع.  والمرأة حرث الزًوج »([10]).
والحَرْث والحِراثَة: العمل في الأرض زرعا كان أو غرسا، وبه فسر الزجًاج قوله تعالى {مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}([11]).
وفي الحديث» اعمل لدُّنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً، فخالف بين اللفظين، فيما فسر ابن الأثير ذلك قائلا: «والظاهر من لفظ هذا الحديث: أمَّا في الدنيا فللحث على عمارتها، وبقاء الناس فيها؛ حتى يسكن فيها وينتفع بها من يجيء بعدك، كما انتفعت انت بعمل من كان قبلك وسكنت فيما عمره، فان الانسان إذا علم انه يطول عمره أحكم ما يعمله وحرص على ما يكسبه، 
وأمَّا في جانب الآخرة فانه حث على إخلاص العمل،  وحضور النِّية والقلب في العبادات والطَّاعات،  والإكثار منها،  فإنَّ مَنْ يعلم أنَّه يموت غداً يكثر من عبادته ويخلص في طاعته» ([12]))([13]).

الهوامش:
([1]) نهج البلاغة:  خ 185،  197.
([2]) خ 23،  28 .
([3]) خ 103،  104 .
([4]) بحوث بلاغية:  138.
([5]) ظ:  شرح نهج البلاغة:  البحراني:  3 / 20 .
([6]) نهج البلاغة: خ 176، 182 .
([7]) ظ: الديباج الوضي:  4 / 1496.
([8]) ظ: شرح نهج البلاغة: البحراني: 3 / 331 .
([9]) ظ:  العين (مادة حرث):  3 / 205 .
([10]) مقاييس اللغة: 2 / 49 .
([11]) ظ:  لسان العرب (مادة حرث):  2 / 820   علماً أن الآية الكريمة الواردة آل عمران / 117
([12]) النهاية في غريب الحديث والأثر:  196 .
([13]) لمزيد من الاطلاع ينظر: المعجم الاقتصادي في نهج البلاغة، للدكتورة سحر ناجي المشهدي، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 252-256.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2677 Seconds