خُطَى الخُزَاعي
شهر قضاه الله تعالى الأفضل من بين الشهور، فجعل فضله عليها كفضل أهل البيت (صلوات الله عليهم) على سائر الخلق، مرويًا هذا عن المولى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في خطبة له من على منبر الكوفة مستقبلًا الشهر الفضيل، ثم مفصِّلًا بأنَّ أيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، وأنَّ العبد ليُدعى فيه إلى ضيافة ربٍّ جواد ذي عطاء جزيل مع الإفصاح عن مزيد من بركات([1])، وبالمثال الذي ساقه أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) مقايسًا بين أهل البيت وسائر الخلق ثم تشبيه فارق المقايسة هذا بين شهر رمضان وسائر الشهور، ندرك معنىً عظيمًا بعيد الغور في الأفضلية، فمن المعلوم أنَّ أهل البيت (صلوات الله وسلامه عليهم) لا يقاس بهم أحد من الخلق، إذ إنَّهم قد سبقوا كل الخلق في الفضل بقدر لا يعلمه إلّا الله تعالى شأنه، فيكون لشهر رمضان بالنسبة لغيره من الزمان في الأفضلية كهذا الفارق الشاسع.
وبتتبع بسيط لبعض الآثار الشريفة نحاول قراءة شيءٍ من مختصات هذا الشهر الفضيل؛ لندرك عندها -في الجملة- شيئًا من تميزه وأفضليته، وأول المزايا: أنَّه شهر القرآن الكريم نزولًا وربيعًا، فأمَّا النزول حكته آيات كقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان} (البقرة:185)، وقوله: {حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (الدخان: 1-3)، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر:1)، ومن الأثر الروائي الشريف في هذا السياق ما ورد عن أبي عبد الله الصادق قوله: ({إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فغرة الشهور شهر الله (عزَّ وجلَّ)، وهو شهر رمضان، وقلب شهر رمضان ليلة القدر، ونزل القرآن في أول ليلة من شهر رمضان فاستقبل الشهر بالقرآن))([2])، وأيضًا قيل للإمام الصادق (صلوات الله عليه): ((أخبرني عن قول الله (عزَّ وجلَّ): {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ}، كيف أنزل القرآن في شهر رمضان، وإنَّما أُنزل القرآن في مدة عشرين سنة، أوله وآخره؟ فقال (عليه السلام): أنزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم أنزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة))([3])، فأول غيث الفضل أنَّه انتخب من بين الشهور من لدن الحق (جلَّ وعلا) في أن يكون زمان النزول الدفعي([4]) للقرآن الكريم في ليلة معظَّمة، ليغدو بعدها رونقًا له وربيعًا، فعن أبي جعفر (صلوات الله عليه) قال: ((لكل شيء ربيع، وربيع القرآن شهر رمضان))([5])، فيتجلَّى لتلاوته وتدبره في خصوص شهر رمضان أثر متميز وخصوصية متفردة أعلن عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته؛ إذ قال: ((ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور))([6])، وبنزول القرآن الكريم في هذا الشهر المبارك يكون قد كمل الفضل وتمَّ من هذه الجهة بالغًا أقصى نهاية، أمَّا بداية الفضل كانت عند نزول سائر كتب السماء فيه كذلك فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ((نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، وأُنزلت التوراة لست مضين من شهر رمضان، وأُنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وأُنزل الزبور لثمان عشر خلون من شهر رمضان، وأُنزل القرآن في ثلاث وعشرين من شهر رمضان))([7])، فتتجلّى من هذا الانتخاب الإلهي في إنزال الكتب المقدسة فيه جانب من جوانب أفضليته على غيره من الشهور، ومن مختصاته ومن ثم أفضليته أنَّه قد تعبَّد الله تعالى فيه عباده بفرض الصيام من دون سائر الشهور، ذلك الفرض الذي بلغ من شأنه أن يكون سترًا حائلًا بين من تعبد لله به وبين النار، واردًا هذا المعنى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: ((الصوم جُنَّة من النار))([8])، وقد أكثرت الروايات الشريفة في بيان فضيلة الصوم وآثارها البدنية والتربوية وعلل تشريعها، وأغنت في بيان أجور الصائمين وثوابهم.
ومن أطراف فضله التي تحكيه مبالغة في العطاء والتفضل مع أفضلية بيِّنة ما سطَّره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من مزايا ترسمه متفردًا ومتميزًا عن بقية الشهور؛ فقال: عن أبي جعفر (عليه السلام): ((يا معشر الناس إذا طلع هلال شهر رمضان غُلَّت مردة الشياطين، وفتحت أبواب السماء وأبواب الجنان وأبواب الرحمة، وغُلِّقت أبواب النار، واستجيب الدعاء وكان لله فيه عند كل فطر عتقاء يعتقهم الله من النار وينادي مناد كل ليلة هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ ... حتى إذا طلع هلال شوال نودي المؤمنون أن اغدوا إلى جوائزكم فهو يوم الجائزة، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): أما والذي نفسي بيده ما هي بجائزة الدنانير ولا الدراهم))([9])، وبالمعنى نفسه ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): ((إن شهركم هذا ليس كالشهور، إنه إذا أقبل إليكم أقبل بالبركة والرحمة، وإذا أدبر عنكم أدبر بغفران الذنوب، هذا شهر الحسنات فيه مضاعفة، وأعمال الخير فيه مقبولة... إنَّ الشقي حق الشقي من خرج عنه هذا الشهر ولم تغفر ذنوبه، فحينئذ يخسر حين يفوز المحسنون بجوائز الرب الكريم))([10])، فالبيان النبوي الشريف يكني بهذا الوصف عن فرصة استثنائية يتوجب على المؤمن استثمارها بأقصى ما يكون، ليخرج منها بأغلى الهبات والجوائز الإلهية، فإنَّ من قلة حظ العبد أن يفوِّت على نفسه هذا الاستثناء في العطاء الذي لا يدرك مثله إلّا في عرفة أو في شهر رمضان قابل كما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ((من لم يغفر له في شهر رمضان لم يغفر له إلى قابل إلا أن يشهد عرفة))([11])، وهنا يتضح شيئًا من معنى ضيافة الله تعالى للعبد في هذا الشهر الفضيل؛ إذ سيعرضه تعالى لنفحات من عطاء متنوع ومضاعف من جانب، ونسائم من عفو وغفران من جانب ثانٍ، ولعل أجلى معنى لمضاعفة الأجر وضيافة الله تعالى ما ورد بشأن ليلة القدر وإحيائها: ((وفيه ليلة، العمل فيها خير من العمل في ألف شهر))([12])، فيحسن بالعبد المدعو لتلك الضيافة الإلهية أن يكون ملتفتًا إلى قدسية الزمان وخصوصيته ((ورمضان شهر الله))([13])، وأن يرتقي إلى مستوى لائق في مراعاة شأن المضيف وحقوقه.
اللهم بلِّغنا شهرك الفضيل بأحسن حال، وصل على محمد وآله الطاهرين...
الهوامش:
[1])) ينظر: فضائل الأشهر الثلاثة، الشيخ الصدوق (ت: 381): 108.
[2])) الكافي، الشيخ الكليني (ت: 329): 4/65-66، ح1.
[3])) الأمالي، الشيخ الصدوق: 119، ح5.
[4])) أي النزول دفعة واحدة.
[5])) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، العلامة المجلسي (ت: 1111): 12/519، ح10.
[6])) إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس (ت: 664): 1/27.
[7])) الكافي: 2/629، ح6.
[8])) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق: 2/74، ح1771.
[9])) الكافي: 4/67 – 68 ، ح6
[10])) الأمالي، الشيخ الصدوق: 109.
[11])) الكافي: 4/66، ح3.
[12])) المصدر نفسه: 4/66، ح2.
[13])) دعائم الإسلام، القاضي النعمان المغربي (ت: 363): 1/283.