بقلم: م. م. هدى ياسر سعدون
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
في عهده الشريف لمالك الأشتر عليه الرحمة والرضوان يؤصل عليه السلام لمنهاج الحكومة ورأس السلطة فيها آلية تتبع القضاة فيقول: «تَرِدُ عَلَى أحَدِهِمُ القَضِيَّةُ في حُكْم مِنَ الاْحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ القَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيها بِخِلافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ القُضَاةُ بِذلِكَ عِنْدَ إمامِهِم الَّذِي اسْتَقْضَاهُم، فَيُصَوِّبُ([1]) آرَاءَهُمْ جَمِيعاً، وَإِلهُهُمْ وَاحِدٌ! وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ! وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ! أَفَأَمَرَهُمُ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ بِالاخْتلاَفِ فَأَطَاعُوهُ! أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ! أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ! أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضى؟ أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وآله)عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ؟ وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ:
{مَا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِنْ شَيْء}([2]).
{وَفِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْء}.
وَذَكَرَ أَنَّ الكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لاَ اخْتِلافَ فِيهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}([3])»([4]).
ولما كان الإله سبحانه واحدًا والرسول صلى الله عليه وآله واحدًا والكتاب واحدًا وجب أن يكون الحكم في الواقعة واحدًا، كالملك الذي يرسل الى رعيته رسولًا بكتاب يأمرهم فيه بأوامر يقتضيها ملكه وإمرته، فإنه لا يجوز ان تتناقض أوامره، ولو تناقضت لنسب الى السفه والجهل([5]).
وفي موضع آخر يقول عليه السلام:
«فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك معه البصر ولا تتغلغل إليه الفكر»([6]).
وقوله كذلك في مسألة اجتهادهم في الرأي: ثم جملة الأخبار لأطرافك قضاة تجتهد فيهم بنفسه لا يختلفون ولا يتدابرون في حكم الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله، فإن الاختلاف في الحكم إضاعة للعدل وغرّة في الدين وسبب من الفرقة...»([7]). قد خاضوا بحار الفتن وأخذوا بالبدع دون السنن([8]). وقد ذهب الكثير بقولهم ان هناك بعض الأحكام القضائية التي انفرد الإمام عليه السلام في صفة الحكم بها، ومعالجتها، إذ إن المتأمل في هذه القضايا ليستغرب حقًا من مجريات الحكم واستنطاق الشهود([9]). وإثبات الأدلة فيها، إذ نجدها قد أخذت مستندًا اعتمد عليه الفقهاء فيما بعد بالمشابه بها من الأحكام([10]). ومن خلال ذلك نستطيع القول: إن القضايا التي حكم بها الإمام علي عليه السلام قد أصبحت بمنزلة دستور لكل أحد يأتي بعده أو أثناء حياته وذلك بشهادة المؤالف والمخالف([11])([12]).
الهوامش:
([1]) يقول السامرائي: «والتصويب هو الحكم بالصواب، وليس تصحيح الخطأ كما هو شائع في العربية المعاصرة، يُنظر: السامرائي إبراهيم، مع نهج البلاغة (دراسة ومعجم)، دار الفكر، (عمان – 1987)، ص236.
([2]) سورة الأنعام (الآية – 38).
([3]) سورة النساء (الآية – 82).
([4]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، (18)، 1/40.
([5]) ابن أبي الحديد، 1/246 – 247.
([6]) المصدر نفسه، خطبة (85)، 6/462.
([7]) البحراني، تحف العقول، ص133.
([8]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، خطبة (154)، 9/124.
([9]) قد ذكر ابن شهر أشوب بأن الإمام عليg هو أول من فرق بين الشهود بقوله: أنا أول من فرق الشهود بعد دانيالg يًنظر: مناقب آل أبي طالب، 2/193. فيما أفرد العامري ابوابًا في حكم الشهود وشروطها... للمزيد يُنظر: ابو الحسن محمد بن يحيى الشافعي (ت410هـ /1017م)، ادب الشهود، دراسة وتح: أ. د. محي هلال سرحان، المطبعة العربية، (بغداد – 1991)، ص118.
([10]) الباعوني، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي عليه السلام، 1/206.
([11]) حيث أشار ابن الجوزي في مسألة قضاء الإمام عليه السلام عندما كان في المدينة وذلك بقوله: «كان أبو بكر وعمر يتشاورونه ويرجعان الى رأيه، وكان كل الصحابة مفتقرًا الى علمه...»، يُنظر: المنتظم في تاريخ الأمم، 3/322.
([12]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الفكر الإداري عند الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة، هدى ياسر سعدون، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة، العتبة الحسينية المقدسة: ص196-199.