القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة التأمل وتداعي الأفكار، والغيبيات، كما تبدو في فكر علي (عليه السلام)

مقالات وبحوث

القضايا الكلامية والتأملات الكونية كما تبدو في نهج البلاغة التأمل وتداعي الأفكار، والغيبيات، كما تبدو في فكر علي (عليه السلام)

1K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 09-09-2025

ب ـ تداعي الأفكار في تفسير آيات القرآن الكريم المتعلقة بمعاني الحياة والموت والإيمان

بقلم: د. جليل منصور العريَّض

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:

تكاد معظم كتب الرجال التي ترجمت لعلي عليه السلام تجمع على القول بغزارة علمية في مجال الفقه والفرائض والقضاء والتفسير([1])، فما يروى عن ابن عباس في ذلك قوله «قسم عِلْم الناس خمسة أجزاء فكان لعلي عليه السلام منها أربعة أجزاء ولسائر الناس جزء وشاركهم علي عليه السلام في الجزء فكان أعلمهم»([2]) وفي مجال علوم القرآن يقول علي عليه السلام عن نفسه «والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت وأين أنزلت»([3])، كما يرى الشيعة أنه أول من صنف في التفسير([4])، وقد حفظ لنا نهج البلاغة ثلاثة نصوص في التفسير هي:

1ـ ما قاله بعد تلاوته: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ Q حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}([5]).

2ـ ما قاله عند تلاوته: «يسبح له فيها بالغدو والاصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله»([6]).

3ـ ما قاله عند تلاوته: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}([7]).

ويمكن عد استرسال علي عليه السلام في التعليق على تلك الآيات، نموذجا من نماذج تفسيره للآيات المتعلقة بالجانب التأملي المنطوي على معاني الإيمان والحياة والموت، والمبني في أساسه على الأساليب البيانية التي تعمد إلى تفتيق المعاني، وتجسيدها في صور تطلق للفكر العنان لينساح في سبحات دينية تتناسب وما يكمن في الآيات المفسرة من تعبيرات عميقة. وعلي عليه السلام حين يتناول هذا الجانب القرآني بالتحليل لا يقف عند حدود المعاني القاموسية بل يضرب بفكره في اعماق الكلمة، متأملا طاقاتها شاحذا اياها كي تستجيب للمعاني التي يريد من خلالها تجسيد كل ما يهز الاعماق ويثير الاحساس ويطلق للعقل عنان التفكير فيما وراء المحسوس ويكفي ان تأخذ الآية الأولى كنموذج لذلك النوع من التفسير التأملي.

فكلمة المقابر وعلاقتها بالبشر في قوله تعالى:

{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ Q حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}([8]) لم تقصر على المعنى الظاهر للموت، بل سلكت ايحاءاتها تأملاً عميقا في معنى الحياة، واستبطاناً في فحوى الموت، لتجسد ما تزخر به الآية الكريمة من طاقات معنوية تسلك طريقها إلى النفوس، وتوقظ الاحاسيس بسيطرة أساليب الانشاء على النص التفسيري، حين ورد التعجب في صدره ليلقي بالمستمع في بحر متلاطم من الاستغراب الذي يشد الانتباه، ويجذب الاسماع ويطلق للعقول عنان التأمل كما في قوله بعد عرض الآية على الأسماع مباشرة «يا له مرماً ما أبعده وزوراً ما أغفله، وخطوا ما أقطعه، لقد استحلوا منهم أي مذكر، وتناوشوهم من مكان بعيد»([9])، فقد بنى علي عليه السلام السياق الفكري لمطلع التفسير على مقولة فحواها عدم جدوى فخر الأحياء بأسلافهم من الموتى، والتخلي عما استطعموه من أفعال وآثار خلفوها وراءهم، والأجدى لأولئك الأحياء التأمل في حالهم ومآل مصيرهم، بالاتخاذ من حال أولئك الموتى في مقرهم الابدي عظات وعبر، وتمكنهم من تلافي ما فرط منهم من اعمال لا يرضاها الله قبل مباغتة الموت لهم.

فالتقريع على تفريط الفرد فيما وهبه الله من نعم مقابل الإيمان، والتباهي بعصبية الأنساب والأصول هو المعنى العام للآية، إلا أن علياً عليه السلام لا يكتفي بذلك المعنى حين يقرر بأسلوب تأملي مناسب، أن لا جدوى من التفاخر بالأنساب من خلال أولئك الموتى، ولا طائل من التباهي بما خلفوه من آثار تركوها بعد فراقهم، لأن الأجدى من وجهة نظره «لأن يكونوا عبرا من أن يكونوا مفتخرا»([10]).

ومن خلال عبارات تأملية تتداعى أفكار علي عليه السلام لتأخر بألباب مستمعيه في رحلة استبطانه عبر المقابر ليستنطقها حال أولئك المفتخر بهم من الموتى وعلاقتهم الحقيقية بأولئك الذين يفتخرون بهم، فتجيب قائلة «ذهبوا في الأرض ضلالا، وذهبتم في أعقابهم جهالا، تطأون في هامهم، وتستثبتون من أجسامهم، وترتعون فيما لفظوا، وتسكنون فيما خربوا، وإنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح»([11]) فالتصاعد الأسلوبي يصل بالتأمل إلى ذروته حين ينتقل علي عليه السلام بفكره، من استنطاق الجماد إلى تصوير رحلة الموت الرهيبة في بطن الأرض، حيث تعبث الدود في أجساد لتوها قد أودعت التراب، وأخرى محا معالمها التراب، وهتكها البلى، بتقادم العهد عليها، بحيث يعجز الفكر عن شرح معاني الموت في رحلته التأملية الطويلة كما صورها فكر علي عليه السلام.

على أن علياً عليه السلام لا يترك مستمعه وحيدا في خضم تأملاته العميقة تلك دون ان يشركه في تصوره للموتى في قبورهم في قوله «فلو مثلتهم بعقلك، أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك، وقد ارتسخت اسماعهم بالهوام فاستكت، واكتحلت أبصارهم بالتراب فخُسفت، وتقطعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها... لرأيت أشجان قلوب، وأقذاء عيون، لهم في كل فظاعة صفة حال لا تنتقل، وغمرة لا تنجلي، فكم أكلت الأرض من عزيز جسد، وأنيق لون...»([12]) فالحال قد تبدل، والسعي الدؤوب وراء مقتنيات الدنيا قد توقف، والجمال قد تشوه، وقد ران الهدوء الأبدي على كل شيء من حولهم، فلم تعد العواطف توقظهم ولا تغير الأجواء يململهم من سباتهم العميق، فلا جديد يغير من حالاتهم في مقامهم الأدبي حتى يوم يبعثون.

على أن استرسال علي عليه السلام في تصور حال الموتى في قبورهم من خلال تداعي معاني الآية الكريمة، هو امتداد لدورة الحياة المستمرة كما تصورها فكره، فالبداية والنهاية متعاقبتان في دورة مستمرة لا تتوقف، ويمكن للمتأمل أن ينظر إليهما في تعاقبهما من أية زاوية يشاء، لذلك لم يتقيد في عرضه للحياة والموت، بالترتيب العقلي المتصور، حين بدا تفسيره بأسلوب التقريع عن طريق اثارة مستمعه من خلال أساليب التعجب التأملية المتعاقبة تلا ذلك باستنطاق الأرض عن حالها إزاء الموتى، ثم بوصف الموتى في أجداثهم، وأثناء عبورهم البرزخ([13])، خاتما تأملاته الفكرية في معاني الآية الكريمة بوصف بداية نهاية الإنسان وما يعتبر من أوصاب وعلل ونكسات صحية تتلوها سكرات الموت ومن ثم الفراق الأبدي فيقول عليه السلام في خاتمة ذلك «فبينما هو كذلك على جناح من فراق الدنيا، وترك الأحبة، إذ عرض له عارض من غصصه، فتحيرت نوافذ فطنته، ويبست رطوبة لسانه، فكم من مهم من جوابه عرفه فعيي عن رده ودعاء مولم بقلبه سمعه فتصام عنه! من كبير كان يعظمه أو صغير كان يرحمه»([14]). فتفسير علي عليه السلام هذه الجوانب الماورائية وربطها بالواقع، لم يعد مجرد توضيح المعاني من خلال شرح مقتضب، فقد استحال إلى طاقات من المعاني الإيحائية الموجهة توجيها فكريا ًعمقياً وواعيا، الهدف منها ايقاظ حس الإنسان بالتحدث إلى نفسه لزرع الإيمان والخشية في اعماقها، والأخذ بيده إلى الصلاح والخير عن طواعية واقتناع. ولو تأملنا في تفسيره للآيتين الأخريين لوجدنا أنهما لا تبتعدان في مهجهما الفكري عما أورده فيما عرضنا له إلا بالقدر المؤدي إلى الغاية الأساسية التي يتوجه بها النص القرآني من معان إيحائية، حيث تكون الآية هي المنطلق للتعبير الفكري عن معاني الإيمان والحياة والموت والعقيدة وغير ذلك من موضوعات تأملية أخرى. هذا وقد عرضت نصوص النهج ـ من ناحية ثالثة ـ إلى عدة قضايا غيبية، كالحديث عن مصير الخوارج مستقبلا([15]) والفتنة التي سيحدثها الأمويون([16])، وما ستصير إليه البصرة([17])، وما سيؤول إليه الوضع الإسلامي على أيدي الترك وغيرهم([18])، إلى غير ذلك من تنبؤات، يجدر الوقوف على حقيقتها من وجهة نظر علي عليه السلام.)([19]).

الهوامش:
([1]) راجع سبط بن الجوزي ـ تذكرة الخواص ص 51 ـ الكنجي ـ كفاية الطالب ص 179 المحب الطبري ـ ذخائر العقبى ص 77.
([2]) ابن عساكر ـ ترجمة الإمام علي عليه السلام من تاريخ دمشق 3/45 ـ بتحقيق محمد باقر المحمودي.
([3]) أبو نعيم الحافظ ـ حلية الأولياء 1/68 وجاء مثله عند ابن عبد البر ـ الاستيعاب بهامش الإصابة 3/43.
([4]) راجع: حسن الصدر ـ تأسس الشيعة لفنون الإسلام ص 316 وما بعدها.
([5]) خطب ـ218 والآية من سورة التكاثر/1، 2.
([6]) خطب ـ 219 ـ والآية من سورة النور /36، 37.
([7]) خطب ـ 220 ـ والآية من سورة الانفطار/6.
([8]) التكاثر/ 1، 2.
([9]) خطب ـ 218 ـ فقرة ـ1.
([10]) راجع السابق.
([11]) خطب ـ 218 ـ فقرة ـ 1.
والضلال ـ بضم الضاد وتشديد اللام وفتحها ـ جمع ضال ـ أي ضائع وتائه غير مهتد. وتطأون هامهم: تدرسون وتمشون عن رؤوسهم، والهام ـ جمع هامة أعلى الرأس، وتستثبتون من أجسادهم أي تبنون وتنشؤون من تراب أجسادهم، وترتعون فيما لفظوا: أي تأكلوه وتتلذذون بما طرحوه وخلفوه.
([12]) السابق ـ فقرة ـ 4ـ وارتسخت، مبالغة في الرسخ أي نضوب مستودع قوة السمع، وذهاب مادته بفعل عوث الديدان والهوام فيه، واستكت الأذن: صمخت، وخسفت العين: أي انفقأت وتشوهت بفعل التراب وذلاقة الالسن: قوة نطقها.
([13]) وردت كلمة البرزخ عند علي عليه السلام ضمن التفسير في قوله عن الموتى انهم «سلكوا في بطون البرزخ سبيلا سلطت الأرض عليهم فيه»وقد فسر ابن أبي الحديد البرزخ بتفسيرين: بمعنى القبر، وما بين الدنيا والاخرة من وقت الموت إلى البعث شرح النهج 11/145، أما ميثم فقد أخذ بالمعنى الثاني المتمثل فيما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث ـ شرح ميثم 4/59 ورجح المعنى الثاني أيضاً  الخوئي في منهاج البراعة 14/217، 218. وأخذ كل من محمد عبده في شرحه ص416 ط الأندلس، ومحمد جواد مغنية ـ في ظلال النهج 3/289 المعنى الأول المتمثل في القبور، ونحن نرجح ان معنى البرزخ هو ما أخذ به كل من ميثم والخوئي وهو المدة الزمنية التي يقطعها الميت بين وفاته حتى يوم بعثه على اعتبار قول علي عليه السلام سلكوا والسلوك معناه المشيء، ولو أنه عنى القبر لقال سلكوا بطون البرازخ بصيغة الجمع ليتفق مع الفعل سلكوا.
([14]) خطب ـ 218 ـ فقرة 4 في نهايتها، ونوافذ فطنته: افكاره الصائبة وعي: عجز.
([15]) راجع خطب ـ 36، 57، 58، 59.
([16]) راجع خطب ـ 92 فقرة 2.
([17]) راجع خطب ـ 13 وفي تنبئه بما سيحصل بالكوفة مستقبلا راجع خطب 47.
([18]) راجع خطب ـ 128.
([19]) لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور جليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 544-550.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.1149 Seconds