بقلم: رضي فاهم عيدان
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله كما هو أهله وكما يستحقه حمدًا كثيرًا وأعوذ به من شر نفسي إنّ النفس لأمارةٌ بالسوء إلاّ ما رحم ربي، والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّدٍ الأمين وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
إما بعد:
يكشفُ القرآن الكريم عن علاقة ( الصِّدِّيقون ) بالأنبياء ؛ وذلك بلحاظ مجيئها في مورد آخر مقترنةً بهم ، قال تعالى:{وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69 ] ، ويُلحظ فيها أنَّ الانتماء إلى هذه الطائفةِ مشروطٌ بطاعةِ الله والرسول ؛ إذ قوله : {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ} بشرطٌ في الدخول مع ( الصديقين والشهداء) لشبه الاسم الموصول ( مَنْ ) من اسم الشرط ودخلت الفاء في ( فأولئك ) كما تدخل في الخبر ([1])، إلاّ أنّه انتماءٌ يسمحُ للمطيعينَ بالكون في فلَكِ معيَّتهم من دون أن يُعدُّوا منهم ؛ لدلالة ( مع ) على الصحبة ، وهو ما يلمح إلى خصوصية ( الصِّدِّيقون ) وعلوِّ شأنهم ، والتعبيرُ بالمعيَّة شبيهٌ بدلالتها على الاجتماع في قوله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] .
واستُعملت هذه اللفظةُ بصورتِها المفردةِ للدلالةِ على كثرةِ الصِّدق في نبي الله يوسف (عليه السلام) قال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} [يوسف :46]، وإنما نعتهُ بـ(الصِّدِّيق) ((لأنَّه ذاقَ أحوالَه وتعرَّف صدقَهُ في تأويلِ رؤياه ورؤيا صاحبه)) ([2]) فهو تعبيرٌ يُطلَقُ على مَنْ يخبرهُم صادقاً بما سيقع.
ويُشعِر التعبير باسم الإشارة (أولئك) بخصوصيّةِ مدلولِ هذه اللفظةِ في الآيةِ مورد البحث ُ فهو ((بطبيعةِ دلالتِه يحددُ المرادَ منه تحديدًا ظاهرًا ويميزه تمييزًا كاشفًا))([3])، وقد انعكسَ هذا التحديدُ والتميُّزُ في المسندِ إليه على المسندِ الصديقين ، ((لأنَّه حين يكونُ معنيَّاً بالحكمِ على المُسند إليه بخبرٍ ما فإن تمييز المسند إليه تمييزاً واضحاً يمنحُ الخبرَ مزيداً من القوةِ والتقرير))([4]) ،وفي هذا مزيد عناية واهتمام بتحديد مدلول الصِّدِّيقين .
وزاد في بيان مدلولِ هذه اللفظةِ التعبيرُ بـ( الذين آمنوا بالله ورسله ) ، وذلك من جهتين :إحداهُما : أنَّ هذه الجملةَ في موقعِ المبتدأ الذي أُسند إليه ( أولئك هم الصديقون ) بما حملته بين طياتها من سماتٍ دلاليةٍ مضى الحديثُ عنها ، وقدْ تميَّز هذا التعبير عن قوله: ( الذين آمنوا بالله ورسوله ) ويبدو أنَّ اختيارَ الجمعِ (رسله) بدلاً من( رسوله ) يُوحي بكمالِ الإيمان لدلالتهِ على الأيمانِ بكلِّ الرسلِ وعدمِ التَّفريقِ بينهم ، قال تعالى:{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء :152] ، ودلالة الجمع في الإيمان بكلِّ الرسل جاء منسجمًا مع الكثرة والمبالغة في التصديق .
والأخرى : إنَّ هذا التعبير بدلالته على الصِّدِّيقين - على اعتبار أن جملة الخبر هي نفس المبتدأ في المعنى - ([5]) قد زادَ سمةً جديدةً لهم ؛ وهي أنهم من السابقين إلى مغفرة الله وجنَّته ، قال تعالى:{ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد :21] .في هذه الآية دعوةٌ للتسابق إلى ( مغفرة وجنَّة ) ، وأن من سينالها هم الذين أمنوا بالله ورسله ، ولما كان الصديقون هم الذين آمنوا بالله ورسله فيكونون هم السابقون إلى ذلك الوعد الإلهي .
أمَّا ما يخُصُّ علاقة لفظةِ الصِّدِّيقين بـ(الشُّهداء)، فالتعبير القرآني يُرجِّحُ أنْ تكونَ الواوُ عاطفةً لمفردٍ على مفرد وليست استئنافية؛ ويؤيد ذلك أمران:
أحدهما: إنَّ لفظةَ (الصِّدِّيقين) لم ترد في القرآن إلاَّ وهي مُقترنة بلفظة (الشُّهداء)؛ وذلك في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء :69] والآخر في الآية مورد البحث ([6]).
الآخر: تأسيسًا على الاقتران السابق يكون الصدقُ ملازمًا للشهادة؛ إذ إنَّ من أولويات عملِ (الشُّهداء) أداءَ الشَّهادةِ بصدق ، قال تعالى :{ولَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [النور :13] فيحسُن عطفها على ( الصِّدِّيقون ) لاشتراكهما في تحقيق هذا المعنى .
وبناءً على هذا الرأي ، فإنَّه لما كانت دلالةُ العطفِ المشاركةَ في الحكمِ ، يترتبُ عليه أنْ يشاركَ (الشهداء) ( الصديقين ) الإسنادَ لاسم الإشارة الدَّال على ( الذين أمنوا بالله ورسله ) فهم الصديقون والشهداء ، كذلك شاركَ الشهداءَ الصديقين في المنزلةِ ؛ بأنْ جاءَ ذكرُهم مقترناً بذكرِ(الأنبياء) كما هو الحال في ( الصديقون ) ، وهو ما يتَّضِحُ في قولهِ تعالى:{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } [الزمر :69] وقوله ( قُضي بينهم بالحق) بعد مجيء الشُهداء قرينة على دورهم في تصديق الأنبياء بتأدية الشهادة.
ويبدو للباحث أنَّه لامانعَ من القولِ أنَّ (الصِّدِّيقون) هم (الشهداء) ، والمغايرةُ بحسَب دلالةِ العطف للإشارةِ إلى أنَّ مقامَ التَّصديقِ بالرُّسلِ بالنسبةِ للـ(الصديقون) سيكون في الدُّنيا ، وصِدقُ الشُّهداءِ سوف يكونُ في الآخرةِ ؛ لملازمتهم الرُّسل في أداء رسالتهم ، فالتعبيرُ بهما وصفٌ للذين آمنوا بالله ورسلِه بأنَّهم صديقون وشهداء ([7]) ، ويُحتملُ أيضًا أن يكون الصديقون مجموعة كبرى تشتمل على الشهداء وإيرادها أولاً من حيث الترتيب يشعر بهذا المعنى .
ومن خلال هذا العرض يخلص الباحث إلى خصوصيّة لفظة ( الصديقون ) - وهي من صيغ المبالغة الدَّالة على التكثيرفي الوصف ([8]) – وذلك من خلال ماتمَّ التوصل إليه من نتائج في ضوء استعراض سياقات اللفظة قرآنيًا وتفاعل المعنى النحوي الدلالي التي أبرزت سماتٍ دلاليّة كثيرةً من حيث اقترانها باسم الإشارة الذي ميَّزها أكمل تمييز مقترنًا بدلالة الحضور ، ومشاركتها ( الشهداء) في الانتماء إلى طائفة ( الذين آمنوا بالله ورسله ) ، وأنهم المدعوُّن إلى التسابق لمغفرة الله وجنَّته ، فتحصيل السبقِ فيهم شرطٌ في إحرازها فيكونوا من السابقين ، وكذلك مشاركتها مع ( الصادقين ) في خصوصيَّة مدلولها لاقترانها بـ( مع ) الدال على المصاحبة دون التعبير بـ( من ) ، ولعلَّ وجود ضمير الفصل ( هم ) يُعدُّ من أبرز السِّمات الدلالية التي انمازت بها لفظةُ الصديقين الذي ساهم في إبراز ما تختص به اللفظة من سماتٍ دلالية لدلالته على الحصر ([9]).([10]) .
الهوامش:
([1]) ينظر : أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك : 1/215 .
([2]) الكشاف : 2/457 .
([3])خصائص التراكيب : ص200 .
([4]) المرجع السابق : صحيفة نفسها .
([5])ينظر: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك : ج1/ص201 ، و توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك : 1/144 . كما هو الحال في جملة ( قل هو الله أحد ) فالجملة المُخبر بها نفس المبتدأ في المعنى لأنها مفسِّرة للمبتدأ والمُفسِّر عين المُفسَّر ،فجملة ( أولئك الصديقون ) هي نفس عين جملة الذين ( آمنوا بالله ورسُله).
([6]) ينظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : 514 .
([7]) ينظر: الكشاف : مج4 /466 ، والمحرر الوجيز : مج5/ ص265-266.
([8]) ذكر ابن قتيبة بأن صيغة ( فِعِّيل ) لمن دام منه الفعل وهو أبلغ من التكثير ، وعُدَّت هذه الصيغة من الصيغ السماعية عند العرب في دلالتها على المبالغة ، وقد ألحِقت هذه الصيغة هنا بصيغة اسم الفاعل لاشتراكها معه في دلالتها على الذات المتلبسة بالوصف ولإمكان تحويل صيغ اسم الفاعل إلى صيغ المبالغة وهذه منها، ينظر أدب الكاتب : ص255 ، والنحو الوافي : 3/ 258-259 .
([9])ينظر : الكشاف : ج1/ص54.
([10]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الآيات المتعلقة بالإمام علي (عليه السلام)/ دراسة في ضوء المعنى النحوي الدلالي، تأليف: رضي فاهم عيدان، ط1، مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة، ص 110-111.