الباحث: محمد حاكم الكريطي
الحمد لله رب الذي إليه مصائر الخلق وعواقب الأمر , نحمده على عظيم إحسانه ونير برهانه , ونوامي فضله وامتنانه حمداً يكون لحقه ِ قضاء ولشكره أداء , وصلى الله على محمد و آل محمد، أما بعد:
ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) كلام عن الشبهة، ومنه في خطبة له (عليه السلام) يحذّر من الشبهة ويشير الى تسميتها بهذا الاسم , قال (عليه السلام) : (( وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق))[1], يتحدث (عليه السلام) عن العلة وراء تسمية الشبهة بهذا الاسم في إطارها العام والاصطلاحي الواسع , أما في المعنى اللغوي للشبهة فقد جاء في معجمات اللغة قولهم : ((الشبهة : هو مالم يتيقّن كونه حراماً أو حلالاً ))[2] , إذن هناك انسجام طبيعي بين مفهوم الشبهة على وفق ما أشار اليه الإمام (عليه السلام), وما نصت عليه اللغة, فإن الشبهة هي معنى يجمع بين طرفين نقيضين, وذلك الجمع ليس منبثقاً من واقع هذين الشيئين , وإنما التضليل وسوء الإدراك والتلقي غير المسند الى الدليل المنطقي, هو ما يجعل هذين الشيئين مجتمعين, يصعب على الآخر الفصل بينهما؛ لشدة ذلك التلازم الذي وقع ضمن المساحة الظنية لالتقائهما, كأن يكون ذلك في الضدين مثل الحق والباطل في ساحة واحدة, وهناك من يرى ذلك الحق باطلاً, والآخر, وهناك من يرى الباطل حقاً. فإلامام (عليه السلام) أراد من خلال كلامه هذا أن يجعل ذلك المفتاح اللغوي وسيلة للعروج بأذهان الناس الى الفصل بين جبهات الحق والباطل, وذلك عبر تلمّس الإمام ( عليه السلام ) الحال التي وصلت إليها الأمة, وأخذت بقبول معاوية بموازاته (عليه السلام) , إذا لم نقل أن معظم المسلمين يومئذ تدافعوا الى ساحة معاوية, طمعاً بالدنيا وركوناً اليها, وذلك متأت من جملة اسباب, من بينها بعض الدوافع الفكرية, وزحمة الشبهات الإسلامية إبّان حكم معاوية , وادعاءه النزول بالأمة عند طاعة الله سبحانه, وضربه ستار الضلال بين أعين الناس وبين الحق الذي كان يدور مع علي (عليه السلام), حتى بلغت الشبهة في نفوس الناس وصار يقال لمعاوية أمير المؤمنين, ولعلي ( عليه السلام ) أمير المؤمنين, حيث تساويا في الألقاب والصفات, والدوال اللفظية, وذلك لم يُفضِ الى المعاني التي توسم بها أمير المؤمنين (عليه السلام), ولم تلتقِ بينهما قط , لكن ما الذي دفع بالأمة الى ذلك !؟ هو ضياع الهوية من خلال إثارة الشبهات.
ثم إن الإمام (عليه السلام)في الخطبة ذاتها يتمم قوله, ليدلنا على المعنى الأوسع , فيقول : (( فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى))[3], فقوله (عليه السلام) (فأما اولياء الله) فهذه إشارة بيّنة راجعة على نفسه الكريمة, وذلك المعنى بالاستناد الى قوله تعالى: ((إنما وليكم الله ورسوله والذين أمنوا))[4], وهذه الآية المباركة مفروغ من سبب نزولها, وتخصيص فضلها في الإمام علي (عليه السلام), وقد أشبع المفسرون هذه القضية من الدراسة والاستدلال عليها من خلال حديث الغدير, وتصدّق الإمام (عليه السلام) بخاتمه اثناء صلاته في المسجد. إذن فدلالة أولياء الله عائدة على الإمام وأهل بيته (عليهم السلام), فالإمام (عليه السلام) عندما قال (أولياء الله) كان يعني ضمناً هناك أعداء لله, يقابلون أولئك الأولياء, وتلك الإشارة الى بني أمية, لما لقى منهم (عليه السلام) من الأذى والضيق, وهذا الذي حلّ به (عليه السلام) من بني أمية هو طعن في الدين من خلال استهداف الإمام (عليه السلام) لأنه الرمزية الدينية والامتداد الطبيعي للشريعة السماوية التي تمثلت بشخصه بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه آله)، فتجذّرت أصول بني أمية وكانت امتدادا طبيعيا للشرك الذي ظهر خطًّا موازياً من خلال الامتداد الزمني مع أهل البيت (عليهم السلام) ومن قبلهم رسول الله (صلى الله عليه وآله), لتستمر تلك الشبهة ملقية بجرانها في ساحة الأمة, وعانى ما عانى المسلمون من تلك الشبهات التي أثيرت ومازال بعض الناس يعتاش على فتاتها ليستمر في ضلاله الموازي من حيث المكان لامتداد أهل البيت (عليهم السلام) المتمثل بأتباعهم.
ويتمم الإمام (عليه السلام) خطبته بقوله: ((وأما أعداء الله فدعاؤهم الضّلال))[5]. إن معنى الضلال في قوله (عليه السلام), هو كما نصت عليه اللغة: ((الضلال: فقدان ما يوصل الى المطلوب وقيل هو سلوك طريق لا يوصل اليه))[6], وبهذا المعنى اللغوي, فإن الإمام (عليه السلام) يشير الى طريق التيه الذي عبّدوه بنو أمية بشبهاتهم وضياع كثير من المسلمين وشتاتهم على تلك البُنيّات, فدعاء بني أمية الى الضلال في قوله (عليه السلام), هو من روح القرآن الكريم ومن معنى الآية المباركة: ((وجعلناهم أئمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون))[7] فتلك الشبهات التي تعرض لها بالذكر (عليه السلام) في مطلع خطبته المباركة وهي السبب الحقيقي في دعاء بني أمية إمامتهم لأهل الضلال وحدوهم الى جهنم.
الهوامش:
[1] - نهج البلاغة : 98
[2] - التعريفات : 124
[3] - نهج البلاغة: 98
[4] - المائدة : 55
[5] - نهج البلاغة : 98
[6] - جامع العلوم في إصلاحات الفنون : 2/194
[7] - القصص : 41