عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
حظي الإمام الحسين (عليه السلام) بزياراتٍ كثيرةٍ وردت عن المعصومين (عليهم السلام) بطرقٍ متعدِّدة وفي مناسباتٍ متنوِّعة، منها المطلقة العامَّة في أيِّ يومٍ من السَّنة، ومنها الخاصَّة بمناسباتٍ معيَّنة، وما هذا الثراء بزيارات الإمام الحسين (عليه السلام) إلَّا من أجل ربط الإمَّة بنهجه القويم، وسلوكه الثائر ضدَّ الظلم والرذيلة؛ وليكون المؤمن مستعدًّا لتضحية في سبيل الدِّين متى ما دُعي إلى ذلك مقتديًا بالحسين (عليه السلام) الذي يستذكره في كلِّ حينٍ من أيَّامه، سواء بالزيارة أم بمجالس العزاء . ومن الزيارات المهمَّة لسيد الشهداء ما تُسمَّى بزيارة الأربعين، وهذه الزيارة مختصَّة بيوم العشرين من صفر الذي يمثِّل مناسبة مرور أربعين يومًا على استشهاد سيد شباب أهل الجنَّة، وهذه الزيارة واردة عن الإمام الصَّادق (عليه السلام)، أمَّا أهميَّة هذه الزيارة فقد ورد عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنَّها إحدى علامات المؤمن الخمسة بقوله: ((عَلاماتُ المُؤمِنِ خَمسٌ: صَلاةُ الإحدَى والخَمسينَ، وزيارَةُ الأَربَعينَ، والتَّخَتُّمُ فِي اليَمينِ، وتَعفيرُ الجَبينِ، والجَهرُ بِبِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ))([1])، وقد أخذت هذه الزيارة طابعًا بين المؤمنين حتَّى صارت عالميَّة يُشارك بها ملايين النَّاس من كافَّة أنحاء المعمورة، يأتون إلى الحسين (عليه السلام) مشيًا على الأرجل من مسافات شاسعة، يواسون بذلك ركب السبايا الذي أتى من الشام إلى كربلاء فصادف وصولهم يوم الأربعين، وما يهمُّنا في هذه العجالة أن نتبيَّن بعض جوانب زيارة الأربعين بكلماتها الواردة عن صادق آل محمَّدٍ (عليه السلام) .
وإذا نظرنا إلى الزيارة وجدناها على قسمين: مقدِّمة، ثمَّ محتوى الزيارة، وسنركِّز على المقدِّمة فنبحث في جوانبها المعرفيَّة، ونؤجِّل النظر في محتوى الزيارة إلى مناسبة أُخرى انسجامًا مع مقام الإيجاز الذي نحن فيه، وقبل أن ندخل في مضمون المقدِّمة لابدَّ من الإشارة إلى أهمِّ وظائفها بالنسبة إلى المتلقي، ومن تلك الوظائف تهيئة الأذهان لاستقبال النص عبر إثارتها معرفيًّا ببعض الكلمات التي تملك طاقاتٍ دلاليَّة عالية في الإثارة، ثمَّ التمهيد للموضوع الذي يُراد طرحه من لدن المتكلِّم . والآن نتفحَّص مقدِّمة الزيارة لنرى ما فيها من مضامين معرفيَّة، والمقدِّمة هي:
((السَّلامُ عَلى وَلِيِّ الله وَحَبِيبِهِ، السَّلامُ عَلى خَلِيلِ الله وَنَجِيبِهِ، السَّلامُ عَلى صَفِيِّ الله وَابْنِ صَفِيِّهِ، السَّلامُ عَلى الحُسَيْنِ المَظْلُومِ الشَّهِيدِ، السَّلامُ عَلى أَسِيرِ الكُرُباتِ وَقَتِيلِ العَبَراتِ، اللّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ وَلِيُّكَ وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ الفائِزُ بِكَرامَتِكَ، أَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَهِ وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَهِ، وَاجْتَبَيْتَهُ بِطِيبِ الوِلادَةِ وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السَّادَةِ، وَقائِداً مِنَ القادَةِ وَذائِداً مِنَ الذَّادَةِ، وَأَعْطَيْتَهُ مَوارِيثَ الأَنْبِياءِ وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ مِنَ الأَوْصِياء، فَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ؛ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَهِ، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى، وَشَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الاَوْكَسِ، وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ، وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَحَمَلَةَ الاَوْزارِ المُسْتَوْجِبِينَ النَّار، فَجاهَدَهُمْ فِيكَ صابِراً مُحْتَسِباً، حَتّى سُفِكَ فِي طاعَتِكَ دَمُهُ وَاسْتُبِيحَ حَرِيمُهُ، اللّهُمَّ فَالعَنْهُمْ لَعْنا وَبِيلاً وَعَذِّبْهُمْ عَذاباً أَلِيماً))([2]) . وهذه المقدِّمة تشتمل على أربعة محاور هي:
أولًا/ تهيئة أذهان المتلقين:
وهذا المحور نجده في قوله (عليه السلام): ((السَّلامُ عَلى وَلِيِّ الله وَحَبِيبِهِ، السَّلامُ عَلى خَلِيلِ الله وَنَجِيبِهِ، السَّلامُ عَلى صَفِيِّ الله وَابْنِ صَفِيِّهِ))
في هذا المحور عمد الإمام الصادق (عليه السلام) إلى تهيئة أذهان المتلقِّين لاستقبال نصِّ الزيارة، وقد اعتمد في ذلك على الكلمات التي تحمل بعدًا قدسيًّا وطاقةً دينيَّةً عالية الإثارة، وهذا ما نجده في الأوصاف التي نعت بها الإمام الصادق جدَّه الحسين (عليهما السلام)، وهي: (وَلِيِّ الله وَحَبِيبِهِ، خَلِيلِ الله وَنَجِيبِهِ، صَفِيِّ الله وَابْنِ صَفِيِّهِ)، وهذه الألفاظ تبيِّن جلالة ورفعة المزور بحيث هو الولي والحبيب والخليل والنجيب والصفي وابن الصفي لله تعالى، وهكذا صفات تجعل من المتلقي أن يُقبل بكلِّ حواسِّه نحو النَّص، ثمَّ تبعث فيه الخشوع والسكينة اتِّجاه هذا الولي المزار .
ثانيًا/ التعريف بشخصيَّة المزور:
وبعد أن تهيَّأ ذهن المتلقي وخشعت حواسُّه عرَّفه بشخصية المُزار فقال (عليه السلام): ((السَّلامُ عَلى الحُسَيْنِ المَظْلُومِ الشَّهِيدِ، السَّلامُ عَلى أَسِيرِ الكُرُباتِ وَقَتِيلِ العَبَراتِ)) .
وهنا استعمل الإمام (عليه السلام) في التعريف بشخصية المزور بعد أن ذكر اسمه صراحةً (الحسين) أردفه بـ (المظلوم، الشهيد، أسير الكربات، قتيل العبرات)، وهذه الصفات تُثير عاطفة المتلقي بحيث يستشعر الحزن لمصاب سيد الشهداء (عليه السلام)، واستشعار الحزن ودمع العين من الأمور المطلوبة في زيارة الحسين (عليه السلام) .
ثمَّ إنَّه ينتقل بعد ذلك إلى بيان قيمة الحسين (عليه السلام) عند الله تعالى، فيبيِّن الرعاية الإلهية له فيقول: ((اللّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ وَلِيُّكَ وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ الفائِزُ بِكَرامَتِكَ أَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَهِ وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَهِ وَاجْتَبَيْتَهُ بِطِيبِ الوِلادَةِ وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السَّادَةِ وَقائِداً مِنَ القادَةِ وَذائِداً مِنَ الذَّادَةِ وَأَعْطَيْتَهُ مَوارِيثَ الأَنْبِياءِ وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلى خَلْقِكَ مِنَ الأَوْصِياء))
وفي هذا النص يبيِّن الإمام الصادق (عليه السلام) اجتباء الله تعالى للإمام الحسين (عليه السلام)، فهو بعين الله تعالى ورعايته؛ إذ هيَّأ له طيب الولادة وجعله سيِّدًا وقائدًا، ثمَّ أورثه مواريث الأنبياء فكان وصيًّا مفترض الطاعة على الخلق أجمعين .
ثالثًا/ بيان دور الإمام (عليه السلام):
وهذا نجده بقوله (عليه السلام): ((فَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَهِ))
كان دور الإمام الحسين (عليه السلام) في الأمَّة أن يدعوهم بالنصيحة لما فيه خير دنياهم وصلاح آخرتهم، ثمَّ يبذل مهجته فيما لو تطلَّب الأمر لإنقاذ العباد من الجهالة وحيرة الضلالة، وهذا ما حصل مع الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، وكان ختام ذلك .
رابعًا/ بيان موقف الأمَّة منه:
وإذا ما أدَّى الإمام دوره في نصح الأمَّة وإرشادها يأتي هنا دور الأمَّة في الطاعة وقبول النصيحة، ولكن مع الحسين (عليه السلام) كانت الأمَّة منحرفة في جُلِّها نحو بني أميَّة خانعةً لهم خاضعة لتجبُّرهم، ممَّا دعا السلطة إلى أن تحارب الإمام فتنتدب إليه طلَّاب الدُّنيا، وفي هذا المعنى يقول الإمام الصادق (عليه السلام): ((وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا، وَباعَ حَظَّهُ بِالاَرْذَلِ الاَدْنى، وَشَرى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الاَوْكَسِ، وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّى فِي هَواهُ، وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ، وَحَمَلَةَ الاَوْزارِ المُسْتَوْجِبِينَ النَّار))
خامسًا/ بيان موقفه من السلطة المنحرفة:
ولمَّا غدرت الأمَّة بالإمام فما كان منه إلَّا أن يُضحِّي في سبيل إحيائها وبثِّ الروح فيها من جديد، وتعريفها بأئمَّة الضلالة، فكان دوره ((فَجاهَدَهُمْ فِيكَ صابِراً مُحْتَسِباً، حَتّى سُفِكَ فِي طاعَتِكَ دَمُهُ وَاسْتُبِيحَ حَرِيمُهُ، اللّهُمَّ فَالعَنْهُمْ لَعْنا وَبِيلاً وَعَذِّبْهُمْ عَذاباً أَلِيماً)) .
وبهذه الكلمات يُنهي الإمام (عليه السلام) مقدِّمته ليبدأ بمحتوى الزيارة، بعد أن هيَّأ أذهان المتلقين وأثار عواطفهم نحو زيارة الحسين (عليه السلام) .
الهوامش:
([1]) المزار، الشيخ المفيد: 53 ، مصباح المتهجد، الشيخ الطوسي: 787 – 788 .
([2]) تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي: 6/118 ، مصباح المتهجِّد، الشيخ الطوسي: 788 ،