الباحث: علي فاضل الخزاعي
الحمد لله الذي هدانا بهدايته ومّنَ علينا بالإيمان بوحدانيته، وأنعم علينا بخاصته وخالصته، خاتم أنبيائه وسيد بريته محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وعترته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
أما بعد..
فهنالك من الصحابة الذين وفقوا بلقاء أمير المؤمنين (عليه السلام) ودافعوا عن نصرة العقيدة ونصرة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد شهد لهم النبي (صلى الله عليه وآله) وهم لم يروه وهذا إن دل على شيء إنما يدل على حسن النية وطهارة المنبت فحب أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يستقر الا في قلب طاهر خالٍ من الشوائب وهذا الكلام ينطبق على الصحابي (أويس القرني)؛ فكان أويس القرني من الزاهدين في الدنيا، ومن المنقطعين للعبادة والتهجد، بعيدا كل البعد عن بهرجة الحياة وزخرفها، وحتى كان يهرب من أقرانه وزهاد زمانه، يستوحش من الناس، ويأنس بالوحدة، ليتفرغ للعبادة والانقطاع إلى خالقه، تجده ذاهلا عن مجتمعه، مشغولا بنفسه كأنما أصيب عقله لوثة لكنه نير الفكر حاد الذكاء، كما تجده رث الثياب والمنظر، حتى جعل بعض الجهال من الناس يظنون به الظنون، ويسخرون منه ويستهزؤون به، على رغم من كونه من أجلاء حواري الإمام علي (عليه السلام) وفي طليعة التابعين[1].
هو اُويس بن عامر بن جَزْء المرادي القرني. كان طاهر الفطرة، سليم الفكرة، ووجهاً متألّقاً في التاريخ الإسلامي. أسلم على عهد النبيّ (صلى اللّه عليه وآله وسلم)، لكنّه ما رآه[2] (لذا عُدَّ في التابعين، وصرّح بأنّه يشفع لخلق كثيرين يوم القيامة[3]، شهد مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الجمل، وصفّين، وعاهده على الشهادة في صفّين. وفيها نال ذلك الوسام بوجهٍ مُدمى ودُفن هناك[4].
وقد وصف الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) اُويساً وصفاً يبيّن منزلته الرفيعة، حين قال: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ... أين حواريّو عليّ بن أبي طالب... فيقوم عمرو بن الحمق... واُويس القرني[5].
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: شهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام من التابعين ثلاثة نفر بصفين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وآله بالجنة ولم يرهم أويس القرني وزيد بن صوحان العبدي وجندب الخير الأزدي رحمة الله عليهم[6].
وأما في كيفية نصرته لأمير المؤمنين فقد قال النبي (صلى الله عليه وآله) ذات يوم لأصحابه أبشروا برجل من أمتي يقال له أويس القرني فإنه يشفع بمثل ربيعة ومضر[7].
وفيه يقول دعبل الخزاعي مفتخرا في قصيدته:
ألا حييت عنايا مدينا **** أويس ذو الشفاعة كان منا
فيوم البعث نحن الشافعونا[8]
وأما كيفية استشهاده فقد قتل بصفين سنة سبع وثلاثين من الهجرة وهو يدافع عن العقيدة والحق مع علي (عليه السلام) وقبره شاخص ومعروف - بالرقة - من سوريا وإلى جنبه قبور الشهداء منهم عمار بن ياسر، وهاشم المرقال: الذين استشهدوا في معركة صفين بن يدي إمامهم علي بن أبي طالب (عليه السلام). وفي المستدرك للحاكم، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وفي الإصابة لابن حجر العسقلاني، وفي رجال الكشي، وفي ميزان الاعتدال، وفي المناقب لابن شهرآشوب، كلهم يجمعون على أن أويس قتل بصفين وهو يقاتل بين يدي إمامه علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى وقع مضرجا بدمه شهيدا، فنظروا إليه فإذا به نيف وأربعون جراحة من طعن بالرمح، ورمية سهم، وضربة سيف، ودفن بها كما مر. وفي الإصابة في ذيل حديث أسير إن أويسا قال في دعائه: اللهم أرزقني شهادة توجب لي الجنة والرزق، قال: أسير فلم يلبث [إلا أن استجاب الله دعاءه]، فنادى مناد علي (عليه السلام) يا خيل الله اركبي وأبشري، فصف الناس والجيش وانتضى أويس سيفه وكسر جفنه [غمده] فألقاه بعيدا، ثم جعل يقول أيها الناس، تموا تموا ليتمن وجوه ثم لا تنصرف حتى ترى الجنة، فجعل يتقدم ويقول وهو في الرجالة، ويقاتل أعداء الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، إذ جاءته رمية فأصابت فؤاده، فتردى في مكانه مضرجا بدمه، فلما نظروا إليه وجدوا فيه نيفا وأربعين جراحة من طعن، ورمية، وضربة، وكان ذلك بين يدي الإمام علي (عليه السلام). وفي مناقب ابن شهرآشوب، عند ذكر حرب صفين قال: لما أعلن الإمام (عليه السلام) التوجه إلى صفين، أتى أويس القرني متقلدا بسيفين، ويقال كان معه مرماة ومخلاة من الحصى، فتقدم وسلم على الإمام (عليه السلام) وودعه، وبرز مع رجال ربيعة في الرجالة، فقاتل فقتل من يومه، فصلى عليه الإمام علي (عليه السلام) ودفنه[9].
فهذه إطلاله وجيزة للصحابي أويس القرني، إذ عد من الزهاد والتابعين وشهد له النبي ( صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) وهو لم يره وإن دل على شيء فإنما يدل على درجة الإيمان المنبتة في قلبه لنصرة أمير المؤمنين (عليه السلام) فسلام عليه يوم ولد ويوم أستشهد ويوم يبعث حيا.
وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الأطهار.
الهوامش:
[1] - ينظر: سلسلة الاعلام من الصحابة والتابعين: 4/100
[2] - تاريخ دمشق: 9/415؛ حلية الأولياء: 2/86.
[3] - المستدرك على الصحيحين: 3/58/5721، المصّنف لابن أبي شيبة: 7/539.
[4] - ينظر: حرب صفّين، اشتداد القتال، استشهاد اُويس بن عامر القرني.
[5] - رجال الكشّي: 1/41/20، روضة الواعظين: 309.
[6] - نقله المجلسي في البحار: 32 /618 مع توضيح وبيان.
[7] - سلسلة الاعلام: 4: 101-102.
[8] - شرح الاخبار، القاضي النعمان المغربي: 2/ هامش 40
[9] - سلسلة الاعلام من الصحابة والتابعين: 4: 103-104.