عمَّار حسن الخزاعي:
الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
في هذا المقال أريد أن أنتحي جانبًا مغايرًا لما سارت عليه المقالات الأخرى التي تداولت الموضوع ذاته، فتلك المقالات عندما تريد أن تتناول زيارة الحسين (عليه السلام) ببيان أهميَّتها أو علوِّ منزلتها أو كرامتها عند الله تعالى أو جزيل أجرها؛ فإنَّها تأخذ على عاتقها الاستشهاد بالروايات عن أئمَّة الهدى (عليهم السلام) التي حثَّت على الزيارة وبيَّنت الأجر فيها، وأمَّا اليوم فلديَّ بشارةٌ وهي ليست من الخبر الجديد وإنَّما لم تركِّز عليها الأقلام بالشكل الواسع حتَّى تكون عرفًا بين النَّاس، وفحوى بُشارتي لزائري قبر الحسين (عليه السلام) وللقائمين على خدمة زوَّاره بأنَّ وجودهم لم يكن على محض صدفة، واجتماعهم لم يكن من دون تخطيط، وإنَّما هؤلاء قد اختارهم الله تعالى بأشخاصهم وبأشكالهم وبخلقتهم، وأودع فيهم صفاتًا لا تجدها عند غيرهم أبدًا، وهؤلاء قد أخذ الله تعالى عليهم العهد بأن يزوروا الحسين (عليه السلام) ويتفانوا في إقامة شعائره، وإنَّه لعهدٌ من الله تعالى، فيا أيُّها الزائر والخادم أعلم أنَّ الله تعالى قد اختارك لهذه المهمَّة دون سواك، وهنيئًا لك بذلك؛ لأنَّ الله تعالى عندما يختار إنسانًا لمهمَّةٍ ما فذلك تشريفًا له وتقديسًا لمقامه ورفعةً لشأنه، وهذا الكلام ليس من وحي الخيال وإنَّما تُثبته أدلَّةً كثيرة وبراهين متنوِّعة، ومن تلك الأدلَّة ما جاء عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) عندما جاءه أحد أصحابه، وقد تشرَّف بزيارة أبيه الحسين (عليه السلام)، وكان ممَّن يقيم على الزيارة فقال له: ((أبشر ثمَّ أبشر ثمَّ أبشر، فلأخبرنَّك بخبرٍ كان عندي في النخب المخزونة، إنَّه لمَّا أصابنا بالطف ما أصابنا، وقُتل أبي (عليه السلام)، وقتل من كان معه من ولده وإخوته وساير أهله، وحُملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة، فجعلت أنظر إليهم صرعى، ولم يواروا، فيعظم ذلك في صدري، ويشتدُّ لما أرى منهم قلقي فكادت نفسي تخرج، وتبينت ذلك منِّي عمتي زينب بنت علي الكبرى، فقالت مالي أراك تجود بنفسك يا بقيَّة جدي وأبي وإخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع ولا أهلع، وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مصرعين بدمائهم مرملين بالعراء، مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر، كأنَّهم أهل بيتٍ من الدَّيلم والخزر . فقالت: لا يجز عنك ما ترى، فوالله إنَّ ذلك لعهدٌ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جدِّك وأبيك وعمِّك، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس من هذه الأمَّة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات أنَّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرَّجة وينصبون لهذا الطفِّ علمًا لقبر أبيك سيِّد الشهداء (عليه السلام)، لا يُدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدنَّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهورًا، وأمره إلا علوا))([1])، فهذه عقيلة بني هاشم تشهد لك أيُّها الزائر والخادم بأنَّك قد نلت الاختيار الإلهي لهذه المهمَّة الجليلة، وقد أخذ الله تعالى عليك العهد بذلك، ولستُ أنا من يُبشِّرك بهذا وإنَّما الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) هو أوَّل من أطلق هذه البُشارة، وقد كرَّرها ثلاث مرَّاتٍ (أبشر ثمَّ أبشر ثمَّ أبشر) تأكيدًا لجلالة قدرها وعلوِّ مرتبتها، ثمَّ نعتها بأنَّها من (النخب المخزونة)؛ لنفاستها وشرفها .
ولو أردنا أن نتلمَّس ذلك الميثاق الإلهي في نفوس الزائرين لقبر سيد الشهداء، وكذلك من يتولَّى خدمته في مرقده أو في إقامة العزاء عليه أو في مواكب خدمة الزائرين أو في أي جانب من جوانب إحياء أمر الحسين (عليه السلام)، فإنَّنا سنجدُ آثار ذلك الميثاق واضحةً؛ لأنَّنا لو تأمَّلنا الزائر فإنَّنا سنجد أنَّه في قرارة نفسه ينظر إلى زيارة الحسين (عليه السلام) كالفرض الواجب، ولذلك فهو يُعدُّ العدَّة بأن يجمع المال ويُهيِّئ نفسه لذلك، بل نجد بعض الزائرين من حدَّد يومًا معلومًا يجعله للحسين (عليه السلام) يتعهد قبره فيه، وهذا اليوم لا يسمح لأيِّ شغلٍ مهما كان بأن يشغله عن الزيارة، وإن صادف أمر قاهر فإنَّه سيُعوِّض ذلك اليوم بيومٍ آخر، ولا ينتظر إلى يومه المحدَّد في قابله، وكلُّ ذلك ينبئُ عن استشعاره في قرارة نفسه وفي فطرته بالواجب الإلهي الذي أخذه عليه بميثاقه وإن لم ينتبه إلى ذلك . وهذا الأمر نفسه نجده عند من يتولَّى الخدمة للزائرين أو إحياء أمر الحسين (عليه السلام)؛ فإنَّنا نجدهم يدَّخرون أموالًا برسمٍ معيَّن من موردهم وقوتهم فيجمعونها على طول السَّنة من أجل صرفها في سبيل الحسين (عليه السلام)، وهكذا أُناس لو سألتهم عن مدى حرصهم على الادِّخار لنوائب الدَّهر أو لضمان رفاهيَّة العيش أو لغير ذلك، فستجد أنَّ هذه الأمور لم يفكِّروا بها أبدًا ولم تأخذ ذرَّةً من اهتمامهم، وإنَّما تجد كلَّ همّهم أن يدَّخر أكبر كميَّةٍ من المال للحسين (عليه السلام)، وما ذلك إلَّا لاستشعارهم الواجب الإلهي الذي أخذه الله تعالى عليهم بميثاقه وإن لم يتفطَّنوا إلى ذلك، وهذا الأمر نجده عند أصحاب المشاريع ومن يربِّي الحيوانات عندنا في ريف العراق فإنَّهم يجعلون نصيبًا للحسين (عليه السلام) في مزارعهم ومواشيهم، وما ذلك إلَّا لاستشعارهم الأمر الإلهي بوجوب إحياء أمر الحسين (عليه السلام)، وهؤلاء نجد عندهم من الحرص على أموال الحسين (عليه السلام) المدَّخرة عندهم ما لا نجده حتَّى مع أموالهم، فهم يتفانون في سبيل الحفاظ على ديمومة ذلك الادِّخار والخدمة، ويورثونها من جيلٍ لآخر فيوصي بها الآباء الأبناء؛ ليصدق بذلك قول العقيلة زينب (عليه السلام) ليزيد وهي في حالة السبي، لتواجه أكبر ملك في ذلك الوقت فتقول له: ((ثم كد كيدك، واجهد جهدك، فوالله الذي شرفنا بالوحي والكتاب، والنبوة والانتخاب، لا تدرك أمدنا، ولا تبلغ غايتنا، ولا تمحو ذكرنا، ولا يرحض عنك عارنا، وهل رأيك إلا فند، وأيَّامك إلا عدد، وجمعك إلَّا بدد، يوم يناد المنادي ألا لعن الله الظالم العادي))([2])، وفي نقلٍ آخر تقول العقيلة (عليها السلام) ليزيد الملعون: ((فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا))([3]) .
وهكذا يبقى ذكر أهل البيت (عليهم السلام) خالدًا حيًّا على مدى الدُّهور والعصور، وكلَّما حاول الظالمون أن يخمدوه ازداد ألقًا ونورًا وبهاءً، وكلُّ من يحاربه يفنى ويظلُّ هو شامخًا في علياء القداسة، فهنيئًا لكم يا من وطَّنتم أنفسكم لزيارة الحسين (عليه السلام) وخدمته، فأنتم السُّبل التي يتحقَّق بها الوعد الإلهي بنصر أهل البيت (عليهم السلام) ورفع ذكرهم على مدى الأجيال، وفي الختام أودُّ أن أصوغ البشارة بخبر آخر أنقله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما يسأله أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله: ((يا رسول الله: ما لمن زار قبورنا وعمرها وتعاهدها ؟ فقال: يا أبا الحسن، إنَّ الله قد جعل قبرك وقبر ولدك بقاعًا من بقاع الجنة وعرصة من عرصاتها، وإنَّ الله تعالى جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنُّ إليكم، وتتحمَّل المذلةَ والأذى فيكم، فيعمِّرون قبوركم ويكثرون زيارتها تقربا منهم إلى الله تعالى، ومودة منهم لرسوله (صلى الله عليه وآله)، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري غدًا في الجنة، يا علي من عمَّر قبوركم وتعاهدها فكأنَّما أعان سليمان ابن داود (عليهما السلام) على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك له ثواب سبعين حجة بعد حجة الاسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته أمه، فأبشر وبشر أولياءك ومحبيك من النعيم وقرة العين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر))([4]) .
فيا أيُّها الزائر والخادم، بعدما عرفت أنَّ الله تعالى قد اختارك لهذا الدور، وأخذ عليك العهد بذلك، وشرَّفك بهذا التشريف، فعليك أن تجتهد في تقويم النَّفس وتهذيبها، وأن تلتزم في العبادات بوقتها؛ لتكون مثالًا في الاقتداء وآيةً في العطاء...
جعلنا الله تعالى وإيَّاكم ممَّن يزور الحسين (عليه السلام) ويخدم زوَّاره .
الهوامش:
([1]) بحار الأنوار: 28/59 .
([2]) الاحتجاج: 2/37 .
([3]) مثير الأحزان: 81 .
([4]) جواهر الكلام: 91 – 92 .