خُطَى الخُزَاعي
في نهج علي نظائر آيات محكمات تُضيء كما الأقمار، تحيل حالكة الدرب نورًا لمن ألقى السمع مهتديًا، وأناخ الفكر متحرِّرًا، لا تنسخ بتقادم، ولا تعطل بتقنين، ما زالت تكبر على كل زمان، وتستوعب كل جديد، وكأنَّ قائلها بلحظة بيانها كان بمشهد من حال أزمنة الدنيا وأجيالها (وهو كذلك) فضمَّن بينات القول شمولًا ينبض حياةً وتجدُّدًا.
ومن نفائس نهجه المبارك عهده إلى مالك الأشتر (رحمه الله) حين ولاه على مصر، راسمًا بريشة بيانه المقدس منهجية لا غنى للحاكم عنها إذا ما أراد النجاح في المهمة والفوز عند الله تعالى، فالأشتر (رضوان الله تعالى عليه) وإن كان المقصود المباشر من لدن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) في العهد، إلَّا أنَّ دائرة قصد الكلام غير مقتصرة عليه؛ فقد جعل (عليه السلام) من مالك رمزًا متحركًا تحل محله البدائل المتصدِّية للمسؤولية التي ستنجبها قادم الأجيال وقابل الأزمنة.
وسنقتطف من هذا العهد المبارك بعضًا من بنوده، وخصوصًا البنود التي تصافق الحكام متوالين على تعطيلها، مع استشعار أهمية ما عُطِّل وأنَّه ليس مسألة كمال؛ بل أساس بالتفاتة منكسرة إلى نكبة واقع معاش أفرزتها تراكمات حكومات متعاقبة.
قال (صلوات الله وسلامه عليه): (اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاَد قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْل وَجَوْر، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِى مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاَةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِه، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ)، نبَّه (عليه السلام) إلى أنَّ الحاكم سيكون بمعرض من مراقبة الناس ونظرهم، وسيضعونه في حلبة مقايسة ومقارنة مع غيره من الحكام، كما كان هو يراقب فعل من كان قبله ويقارن منتقدًا معارضًا أو مؤيدًا، معطيًا (عليه السلام) رأي الناس في الحُكّام كاشفية معتبرة يستدل بها على صالحهم، مع التأكيد على اتخاذ العمل الصالح من لدن الحاكم سيرة ومنهاجًا، وأن يكون مالكًا زمام هوى النفس نائيًا بها عمَّا لا يحل له، ثم يؤكِّد (عليه السلام) على أهمية استشعار الرحمة للرعية، وعدم الاستطالة عليهم بالسلطان؛ فالكل إما أخ في الدين أو نظير في الخلق، يعرض على الكل الزلل والتقصير، حاثًّا (عليه السلام) الحاكم على مبدأ تقديم الصفح والعفو ما وِجد له متسعًا، فيستنزل بهذا المبدأ ما يحبُّ من صفح الله وعفوه، فهو فوق جمهوره ودون من ولَّاه، والجميع دون الله تعالى المطَّلع على أفعال العباد كلهم ومنهم ذوي المسؤوليات وما يؤدونه تجاه أداء مسؤولياتهم، محذِّرًا (عليه السلام) من تعريض الحاكم نفسه لنقمة الله تعالى وحربه بالتقصير في حمل المسؤولية، فيبقي نفسه في دائرة رحمة الله وعفوه، لا يتعداها إلى دائرة سخطه التي من غير المقدور له دفع آثارها، منفِّرًا من بعض الخصال ذات النتائج التي تفسد القلب، وتنهك الدين، وتبعد عن الله تعالى، فقال: (وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَأَ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِمْ، وَلاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ، فَإِنَّهْ لاَيَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْو، وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَة، وَلاَ تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَة وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً، وَلاَ تَقُولَنَّ: إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ، فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ، وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ))، من جهة أُخرى حذَّر(عليه السلام) في كلامه من استشعار الزهو والأُبهة بالحكم، وحثَّ على المبادرة وتدارك هذا الشعور بالنظر إلى عظيم سلطان الله واحاطة قدرته، وإلّا سيضع المتجبر المتشبه بصفة الله تعالى نفسه بمعرض إهانة الله وإذلاله، فقال: (وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً، فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدر عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَال).
ولعل أكثر ما يضيء في هذا العهد من كلمات؛ التأكيد على اتخاذ العدل أساسًا للحكم، ومن مقاطع ذلك مخاطبًا الحاكم بدائرته الأوسع، قائلًا: (أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ)، ويزيد (صلوات الله وسلامه عليه) في البيان محذِّرًا من مغبة اتخاذ الحاكم من ظلم الرعية سُنَّة ففيه تغيير النِّعمة وتعجيل النقمة، معطيًا (عليه السلام) السبق والأولوية في اهتمام الحاكم إلى عامة الناس وغالبهم إذ ما تعارضت متطلباتهم مع خاصة الناس وبعضهم، فقال: (وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ، وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ، فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَى الْخَاصَّةِ، وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَى الْعَامَّةِ)، وما قدَّم العامة على الخاصة حتى بيَّن (صلوات الله وسلامه عليه) علة ترجيحه للعامة وتقديمهم في الاهتمام على الخاصة لما لهم ثقل أدوار وكبير معونة، فقال: (وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ للإنصاف، وَأَسْأَلَ بالإلحاف، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الاْعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ للأعداء، الْعَامَّةُ مِنَ الاْمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ)، وننتخب من درر كلامه (عليه السلام) تعريجته على مسألة غاية في الأهمية ألا وهي مسألة اختيار معتمدي الحاكم ومعاونيه من وزراء وما شاكلهم، فعليه النظر بمن سيتصدى لوزارته إن كان ممَّن استعمله قبله شرار الحكام، فهذا أشرٌ لا يستأمن وإن كان يمتلك من المزايا ما يمتلك، فعلى الحاكم إجالة النظر في بدائل لها كفاءات كأولئك الأشرار، وليس لديها تبعاتهم من إعانة على الظلم والفساد، وإشاعة الإثم، فمثل هؤلاء أجدر بأداء حق الوزارة، وأضمن في الولاء للحاكم العادل، وأرشد (عليه السلام) إلى أنَّ الممايزة بين الوزراء والمفاضلة بينهم تكون على معيار مدى التمسك بالحق في أمرِّ المواقف، والمعارضة للحاكم فيما يسخط الله تعالى وأوليائه فقال: (شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ للأشرار قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الاْثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثمة، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ، أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ، ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيَما يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ). كما وأرشد إلى اتخاذ أهل الورع والصدق بطانة للحاكم من دون غيرهم، مع تعويدهم على ترك الثناء على الحاكم، بتهويل فعله، واصطناع منجز لم يفعله استجلابًا لفرحه ورضاه، فذلك مقدمة لسيئة الزهو واستشعار العزة، فقال: (وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّة). ويعود (عليه السلام) إلى منهجية العدل في الحكم، مضيئًا على تبعات عدم الإنصاف، قائلًا: (وَلاَ يَكُونَنَّ الْـمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لأهْلِ الإحْسَانِ فِي الإحْسَانِ، تَدْرِيباً لأهْلِ الإسَاءَةِ عَلَى الإسَاءَةِ، وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ)، وننتخب من عهده الشريف أيضًا استرساله (صلوات الله وسلامه عليه) في بيان آثار تفشي العدل في الأمة، بل يذهب (صلوات الله وسلامه عليه) في النصح إلى أبعد من العدل إلى حيث التودد والإحسان والمبالغة في ذكر المنجز وتشجيع ذوي الكفاءة من الناس، اسهامًا في خلق الروح المعنوية الرافدة للإبداع عند العامل، والمستثيرة للدخول إلى مضمار العمل والإبداع بالنسبة للذوات غير العاملة، فقال (عليه السلام): (وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وَإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بَسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاَةِ أُمُورِهِمْ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ، فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ، وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلى ذَوُو الْبَلاَءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ، إِنْ شَاءَ اللهُ)، وفي ذات السياق شدَّد (عليه السلام) على حفظ المنجزات لأصحابها مع المجازاة بلا حيف وعدم اتخاذ الشرف والضعة مناطًا في تقويم العمل بعيدًا عن قيمة العمل نفسه وأثره، فالمعيار عند الأمير (صلوات الله وسلامه عليه) في التقويم قيمة المنجز لا ما عليه صاحب الإنجاز من حال شرف أو ضعة، فقال: (ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ مَا أَبْلى، وَلاَ تَضُمَّنَّ بَلاَءَ امْرِىء إِلَى غَيْرِهِ، وَلاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِىء إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلاَئِهِ مَا كَانَ صَغِيرًا، وَلاَ ضَعَةُ امْرِىء إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بلاَئِهِ مَا كَانَ عَظيِماً). أمَّا في سياق تعليمه (صلوات الله وسلامه عليه) للحكام في اختيار الأشخاص على وفق المؤهل والكفاءة من عمّال وجند وأصحاب خراج، اهتم باختيار أصحاب القضاء مفصحًا عن صفاتهم المؤهِلة وهذا المقام الحساس، فنزاهة القضاء ركن ركين في تثبيت دعامة أي حكم مهما كانت صفته، معقِّبًا بعد البيان بقلة من يحوز مثل هذه الصفات، فيدل بالدلالة الالتزامية على صعوبة مهمة الحاكم من جهة اختيار المؤهَل وهذا المنصب، فقال: (ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الأمُورُ، وَلاَ تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ، وَلاَ يَتَمادَى فِي الزَّلَّةِ، وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إذَا عَرَفَهُ، وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع، وَلاَ يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقصَاهُ، أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ، وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ، وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ، وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأُمُورِ، وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ، مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إطْرَاءٌ، وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ، أُولئِكَ قَلِيلٌ)، ثمَّ أكَّد (صلوات الله وسلامه عليه) على حساسية مكانة القضاء مجدَّدًا في الدولة بتنبيه الحاكم إلى مسؤوليته المستمرة تجاه القضاء، وأنَّ الأمر لا ينتهي عند مهمة اختيار الأنسب؛ بل تتعداه إلى إدامة تعهد القضاة ومراقبة أعمالهم، مع منحهم خصوصية متميزة في المجتمع، فقال:(ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزيِلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ، وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ، لِيَأْمَنَ بِذلَكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ).
وللكلام تتمة إن شاء الله تعالى