الباحث: عَليّ عبَّاس فاضل
الحمد لله رب العالمين والصَّلَاة والسَّلَام على خير خلقه أجمعين أبي القاسم مُحَمَّد وآلِه الطّيبين الطَّاهرين، وبعد...
يجد المتصفح لكلام سيِّد الوصيِّين أمورًا كثيرة بين ثنايا كلامه الشَّريف، فيرى أنّه شمل جوانب كثيرة في مجالات شتى، ومنها التربية والأخلاق والطاعة والعبادة وغيرها كثير، وما نقدمه في هذه الأسطر القليلة هو كلام له (عليه السلام) في وصف الزمان وتقسيم الناس.
يقول (عليه السَّلَام) في وصف الزَّمان: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا في دَهْر عَنُود، وَزَمَن كَنُود، يُعَدُّ فِيهِ الُمحْسِنُ مُسِيئاً، وَيَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً، لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا، وَلاَ نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا، وَلاَ نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً حَتَّى تَحُلَّ بِنَا)([1]).
ذكر ناصر مكارم الشيرازي في شرحه لهذا القسم أن الإمام (عليه السَّلَام) استهل (الكلام بخطاب عامة الناس ثم أشار الإمام (عليه السَّلَام) في الخطبة إلى الزمن الذي كان عليه الناس فقال: (أَيُّها النّاسُ إِنّا قَدْ أَصْبَحْنا فِي دَهْر عَنُود، وَزَمَن كَنُود)، طبعًا ليس المراد بالزمن الأيام والليالي والشهور والسنين بحيث توصف بالقبح والحسن والبغض والتنكر، بل أهل العصر والزمان الذين يتصفون بهذه الصفات، فاذا ما ذكر الزمان بالحسن والقبح فالمراد الناس، وإلاّ فليس هنالك من تغيير في شروق الشمس أو القمر ولا في حركة القمر حول نفسه أو حول الشمس.
فالشمس تشرق والمطر ينزل والأرض تخرج بركاتها للبشر ولا من تغيير، إلاّ أنّ الناس هم الذين يوصفون بسوء الأعمال وحسنها.
فقد عاش الإمام (عليه السَّلَام) في عصر لم يسع أغلب أفراده ـ سوى النزر اليسير ـ إدراك عظمة روحه وسعة فكره والاحاطة بفضائله ومناقبه، وقد أدت بهم الثروات العظيمة التي أفرزتها الفتوحات الإسلامية واتساع رقعة البلاد إلى التكالب على الدنيا والتهافت على زينتها والحرص على جمع الأموال وحب الجاه والمقام وتناسي القيم والمبادئ.
ثم تناول الإمام (عليه السَّلَام) بعض خصائص الزمان آنذاك والذي يتصف بعناد الناس وجحودهم ليصفه في خمس عبارات فقال: « يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئاً وَيَزْدادُ الظّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً. » أو يمكن أن يتهم المحسن بالإثم ويثنى على الظَّالم؟ بلى إذا تغيّرت قيم المجتمع عد المحسن مسيئاً والمسيء محسناً)([2]).
ومن ثم يقسم الناس إلى أصناف أربعة: (مِنْهُمْ مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ الفَسَادَ في الأرْضِ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ، وَكَلاَلَةُ حَدِّهِ، وَنَضِيضُ وَفْرِهِ. وَمِنْهُمُ المُصْلِتُ لِسَيْفِهِ، وَالمُعْلِنُ بِشَرِّهِ، وَالُمجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ، قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ، وَأَوْبَقَ دِينَهُ لِحُطَام يَنْتَهِزُهُ، أَوْ مِقْنَب يَقُودُهُ، أَوْ مِنْبَر يَفْرَعُهُ. وَلَبِئْسَ المَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً، وَمِمَّا لَكَ عِنْدَ اللهِ عِوَضاً! وَمِنْهُمْ مَنْ يَطلُبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَلاَ يَطْلُبُ الآخِرَةَ بِعَمَلِ الدُّنْيَا، قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ، وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ، وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ، وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلأمَانَةِ، وَاتَّخَذَ سِتْرَ اللهِ ذَرِيعَةً إِلَى المَعْصِيَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أقْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ المُلْكِ ضُؤولَةُ نَفْسِهِ، وَانقِطاعُ سَبَبِهِ، فَقَصَرَتْهُ الحالُ عَلَى حَالِهِ، فَتَحَلَّى بِاسْمِ القَنَاعَةِ، وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ الزَّهَادَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ذلِكَ في مَرَاح وَلاَ مَغْدىً)([3]).
فالقسم الأول منهم من يقصر به الحال عن طلب الأمر، أي: (يقعد به عن طلب الامرة قلة ماله ، وحقارته في نفسه)([4]) .
وأما القسم الثاني من يفسد في الأرض ابتغاء الحصول على الأمرة، فتراه يقاتل ويقتل الناس في سبيل تحقيق ما يصبو إليه و(هذا الصنف من الناس قوي بسلاحه وأعوانه، وقوته هي التي دفعت به إلى الفساد والإفساد "قد أشرط نفسه" جعلها وقفا على الشّرّ (وأوبق دينه لحطام ينتهزه)، أهلك دينه وضميره من أجل الدنيا وحطامها .. وهذا الكلام واضح وصريح في أن الامتياز في القوة بشتى مظاهرها يغري صاحبه بالإمعان في الفساد في الأرض، وان المجتمع إذا تساوى أفراده في القدرات والامكانات يخلو من الدوافع على اقتراف الجرائم.. اللهم إلا من قبل أهل الداء العضال، (أو مقنب يقوده)، يتكبر ويستعلي على العباد بخيله وصهيلها (أو منبر يفرعه)، يعلوه ويلقي على الناس المجاهيل والأضاليل (ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنًا)، نفس الانسان أحب الأشياء اليه، وأعزها عليه، فكيف يبيعها بثمن بخس. ومن أقواله (عليه السَّلَام): إنَّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه، وان أغشهم لنفسه أعصاهم لربّه، والمغبون من غبن نفسه)([5]).
والقسم الثالث هو من طلب الدنيا بالآخرة، فباع آخرته بدنياه وهذا الخسران الكبير، فتراه في ظاهره مؤمن يحمل كل صفاته، ولكنه اتخذ ذلك سبيلا للوصول إلى الأمر الذي يريده، فقد سخَّر الدين في الحصول على نعيم الدنيا الزائل (ومقصوده من ذلك كلَّه أن يفتتن به النّاس ويرغب إليه قلوبهم ويعظم قدره عندهم ويروه أهلا (للأمانة) ويسكنوا إليه في أماناتهم ويثقوا به في أموراتهم، فويل لهذا الرّجل تحبّب إلى العباد بالتّبغض إلى اللَّه وتزيّن لهم بالشّين عند اللَّه وتحمّد إليهم بالتذمّم عند اللَّه (واتّخذ ستر اللَّه) الذي حمى به أهل التّقوى أن يردوا موارد الهلكة (ذريعة إلى المعصيَّة) ووسيلة إلى ما اتيه من الدّنيا الفانية)([6]) .
والقسم الرابع هو الذي يتصنع الابتعاد عن طلب الأمر، كأنه يزهد فيه وهو ليس كذلك، وحقيقة الأمر أنهم (أفراد ضعفاء عجزة لا كفاءة لهم يحاولون التستر بالزهد للتغطية على عجزهم وانعدام جدارتهم والتظاهر بالقوة لإخفاء ضعفهم، والحال ليس لديهم شمة من الزهد والقناعة باطنهم وهم على قسمين: فمنهم من يتستر لخداع النفس ومنهم يخدع نفسه محاولاً إقناع نفسه بأنّه من أهل الزهد والتقوى لا الضعف والعجز يدفعه للتظاهر بذلك.
أمّا المراح والمغدي فقد ذهب أغلب أرباب اللغة وشرّاح نهج البلاغة إلى أنّها اسم مكان لاستقرار الماشية في الصباح والمساء بينما ذهب البعض الآخر إلى أنّها اسم زمان بمعنى الذهاب والاياب ليل نهار، كيفما كان فان المفردتين تعبران عن حماقة هؤلاء الأفراد وبلاهتهم التي تجعلهم بهيئة الزّهد والقناعة)([7]).
فهذه الطبقة من النَّاس لها أثر كبير في انتشار الفساد والجهل والخداع في المجتمع، ولابد من حصرهم والابتعاد عنهم وعدم مخالطتهم، أو اعطائهم الفرصة في أن يتبوأوا مناصب في الدولة، لأنهم دورهم سيكون الهدم لا البناء، والجهل لا العلم، سواء كان ذلك عن قصد منهم أو جهل.
وختامًا: نسأل الله العَلِيّ القدير أن يجنّبنا مثل هذه الفئات التي حذَّر منها أمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، والحمد لله ربّ العالمين.
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصَّالح: 74.
([2]) نفحات الولاية: 2/ 168.
([3]) نهج البلاغة، تحقيق: صبحي الصَّالح: 74- 75.
([4]) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 2/ 178.
([5]) في ظلال نهج البلاغة: 1/ 215.
([6]) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، الخوئيّ: 4/ 55.
([7]) نفحات الولاية: 2/ 177.