فزتُ وربّ الكعبة

مقالات وبحوث

فزتُ وربّ الكعبة

36K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 12-05-2020

سَلَام مَكّيّ خضيّر الطَّائِي.
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصَّلَاة على أشرف الخلق والمرسلين، أبي القاسم مُحَمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرِين، والغرّ الميامين المنتجبين، واللعن الدّاَئم على أعدائِهم إلى قيام يوم الدِّين...
أمَّا بعد:
فإنَّ النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، لاقوا ما لاقوه من أعداء الاسلام والإنسانية، من غدرٍ وقتلٍ وسبيّ وسمّ، وعلى الرَّغم من أنهم (صلوات الله تعالى عليهم) لم يفتتنوا في الدّنيا الفانيَّة الزَّائلة، ولم يتعلقوا بها، بل طلقوها (عليهم السَّلَام)، وفازوا بما يرضي الله تعالى بطاعتهم وبتسليمهم المطلق له (عزَّ وجلّ)، والشهادة في سبيل إحياء العدل الإلهي، وهذا هو الفوز العظيم الأكبر، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾[1].

ومن أوضح مصاديق الفوز برضوان الله تعالى ما حدث للإمام عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) عندما ضربه اللعين ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم (لعنه الله تعالى)  في التاسع عشر من شهر رمضان، وفي هذا اليوم اعتصرت قلوب المؤمنين لوعة وألمًا، على ما حدث من أمرٍ اهتز لأجله كرسي العرش وتهدَّمت أركان الإيمان، وعندمَا جُرحِ وصي الرسول ووليِّ الرَّحمن (عليه السَّلَام) قال: (فزتُ وربّ الكعبة)، وهنا يمكننا القول إنَّ المقصود من جملة (فزتُ وربّ الكعبة)، هو: الفوز بجميع صوره، كالفوز بالمنهج الصحيح القويم الذي سار فيه (عليه السَّلَام)، وهو منهج الرَّسول الأكرم مُحَمَّد (صلَّى الله عليه وآله)، وكذلك الفوز بالشَّهادة، وهذه لهي الغاية عند الإمام (عليه السَّلَام)، وهي السَّمة البارزة التي طبعت جميع حركاته وسكناته، وفي ضوئها يجب أن تفسر أقواله وأفعاله منذ يومه الأول مع رسول اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) إلى النَّفس الأخير من حياته[2].

فكان الإمام يتطلع إلى الشهادة شوقًا، وشقَّ عليه (عليه السَّلَام) أن لا يستشهد في سبيل اللَّه، وكان يسأل الله تعالى أن يمنحها له، ولمَّا أيقن بالشهادة وأنَّها آتية لا ريب فيها، لأنَّ الصَّادق الأمين مُحَمَّد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله) وعده بها، وما لوعده من تغيير، فاستبشر الإمام (عليه السَّلَام) وشكر الله تعالى على نعمة الشهادة، وهذا ما روي عنه (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) في قوله: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولُ اللَّه، أَولَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ، حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وحِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتَ لِي أَبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ، فَقَالَ لِي: إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه، لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، ولَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى والشُّكْرِ)[3].

وحين أتته (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) الشهادة ببهجة البشرى وفرحتها فعدّها (عليه السَّلَام) بالفوز الأكبر، فقال: (فزت ورب الكعبة)[4].

وهذا هو الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)، لا يفرح بالخلافة والولاية، وإن أتت منقادة تجرر اليه أذيالها، ويفرح بالضَّربة المسمومة القاتلة؛ لأنَّ الجنَّة بعدها ووراءها: (وما من شر بعده الجنَّة بشر)[5]، (وكل نعيم دون الجنة فهو محقور، وكل بلاء دون النَّار عافية)[6].

وبالرغم من كلّ ما لاقاه هذا الإمام العظيم من غُبن وحَيف وظلم، فإنّه كان مستقرّ النفس مطمئن الضمير ثابت اليقين; لأنّه لم يعمل لأجل أمجاد الأرض وثناء أهلها، وإنّما عمل لأجل أمجاد السماء ورضوان من الله أكبر، ولهذا عندما أُصيب (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) برأسه الشَّريف الطَّاهر في بيت ربِّه تعالى وهو يقول: (فُزت وربّ الكعبة)، ولو كان (عليه السَّلَام) يعمل لأمجاد الأرض، لما كان سعيدًا بفوزه بالشهادة[7].

أما لو كان غير الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام)، لكان يخشى أن يكون ما بعد الموت أدهى وأمرّ، وقد قال قائل يؤمن باللَّه واليوم الآخر:

ولو إنا إذا متنا تركنا       لكان الموت راحة كل حيّ[8].

فكان (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام) ينتظرها بفارغ الصَّبر ويقول: (ما ينتظر أشقاها أن يخضّب هذه من دم هذا)[9]، وقال (عليه السَّلَام) أكثر من مرة: (واللَّه ليخضبنها من فوقها)[10].

 وبهذا نجد تفسير قوله: (وَاللهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ، وَلاَ طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ، وَمَا كُنْتُ إِلاَّ كَقَارِب وَرَدَ، وَطَالِب وَجَدَ، (وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبرَارِ)[11]، ذلك لأنّ أولياء اللَّه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإنّما يكره الموت من تعلَّق بالدّنيا ونسي حظَّه الأوفر في العقبى، وأمّا أولياء اللَّه فهم في الدّنيا كمن ليس منها، ثم أومأ إلى السبب الموجب لحبّه الموت بقوله تعالى: ﴿وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلأَبْرارِ﴾[12]، والإمام عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) صفوة الأبرار وإمام الأخيار[13].

وفي الختام: لا يسعنا إلَّا أن نقدّم العزاء إلى مقام صاحب العصر والزَّمان الإمام مُحَمَّد المهديّ المنتظر بن الحَسَن العَسْكَرِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليهما) بمصاب سيِّدنا ومولانا وإمامنا أمير المؤمنين عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)، وعظَّم الله تعالى أجور شيعته في مصابهم الجلل، ونسأل الله تعالى أن يتقبَّل أعمالنا بأحسن قبول بحقّ مُحَمَّد وآله الأطهار (صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين)، واللعن الدَّائم على أعدائِهم من الأولين والآخرين، إلى قيام يوم الدِّين، إنَّه سميعٌ عليم...
الهوامش:
[1] الاحزاب: 71.
[2]  ينظر: في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 1/99.
[3] نهج البلاغة: خ: 156، تحقيق: صبحي الصَّالح.
[4] في ظلال نهج البلاغة: 1/99.
[5] في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 1/99.
[6] ميزان الحكمة، محمد الريشهري: 3/2022.
[7] يُنظر: مسند الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)، السَّيِّد أحمد القبانجي: 1/8.
[8] في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 2/280.
[9] مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)، الميرجهاني: 2/347.
[10] الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)، أحمد الرَّحماني الهمداني: 786.
[11] نهج البلاغة، خطب الإمام عَلِيّ بن أبي طالب (صلوات الله تعالى وسلامه عليه): 3/21.
[12] آل عمران: 198.
[13] ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الخوئي الهاشمي: 18/361، وفي ظلال نهج البلاغة: 3/441.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.3100 Seconds