القرآن ربيع القلوب الدائم

مقالات وبحوث

القرآن ربيع القلوب الدائم

8K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 04-06-2020

عمَّار حسن الخزاعي:

الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين...
لقد نظَّم الله (عزَّ وجل) العبادة بنظام يتوافق مع حكمته فجعلها على وفق ترتيبٍ معيَّنٍ، بحيث نجد بعضها ما هو محدَّد بزمانٍ ومكانٍ معيَّنين كالحج مثلًا، ومنها ما يكون دائمًا مع الإنسان على طول مسار حياته كالصَّلاة التي لا تنتهي عند زمان أو مكان، وهناك عبادات ندب إليها الشرع على نحو الاستحباب، وهي أيضًا تنقسم على النحو السابق، فنجد بعضها مقيَّدًا اتيانه بزمانٍ معيَّن كأعمال ليلة القدر أو مكانٍ محدَّد كعبادة العمرة وأفعالها، وهناك من الأعمال المندوبة غير المحدَّدة بوقتٍ أو زمانٍ معيَّنين، وإن كان الشرع قد خصَّها باستحبابٍ أعلى في أوقاتٍ وأماكن محدَّدة إلَّا أنَّ استحبابها مستمر على طول الوقت، ومن ذلك قراءة القرآن الكريم والتفكُّر بآياته ومتابعة مضامينه والتمعُّن بمعانيه ومقاصده؛ ولكنَّنا نجد واقع المسلمين في كثيرٍ منهم يلجؤون إلى كتاب الله تعالى فقد في شهر رمضان، فيتعاهدون قراءته فرادًا ومجتمعين، والحقيقة أنَّ قراءة القرآن يجب أن تستمر مع المؤمن في كلِّ حياته على اختلاف تقلبات أحوالها؛ لكونه كلام الله تعالى خالق الكون، الذي يعرف ما ينفع النَّاس وما يضرَّهم، وقد أودع كتابه المقدَّس كلَّ ما ينفع الإنسان من أنواع الخير التي لا تنتهي، ومن جانبٍ آخر ضمَّنه وقاية وحماية من كلِّ صنوف الشر، وبالنتيجة يكون القرآن الكريم الدستور الضامن للحياة الكريمة للإنسان فيما تعاهده بالقراءة والعمل بمقتضى أحكامه ومضامينه .
وقد أكَّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن بعده أهل بيته (عليهم السلام) على لزوم القرآن الكريم وتعاهده بوصفه نظام الحياة للمؤمن، وهذا الأمر نجده بوضوحٍ جليٍّ عند أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وخصوصًا في كتاب نهج البلاغة، الذي جاء زاخرًا بوصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) بالقرآن الكريم، وممَّا جاء فيه قوله (عليه السلام): ((كِتَاب رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَحَرامَهُ، وَفَرَائِضَهُ وَفَضَائِلَهُ، وَنَاسِخَهُ وَمَنْسُوخَهُ، وَرُخَصَهُ وَعَزَائِمَهُ، وَخَاصَّهُ وَعَامَّهُ، وَعِبَرَهُ وَأَمْثَالَهُ، وَمُرْسَلَهُ وَمَحْدُودَهُ، وَمُحْكَمَهُ وَمُتَشَابِهَهُ، مُفَسِّراً جُمَلَهُ، وَمُبَيِّناً غَوَامِضَهُ))([1])، فالقرآن الكريم خريطة كاملة توضِّح مسارات الدِّين والعقيدة على النحو الدقيق والسليم، ولا يمكن للإنسان مهما بلغ أن يصل به الأمر بأن يأتي على معارف القرآن الكريم فيدَّعي أنَّه أتمَّها أو أحاط بها، وهذا المعنى نجده في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((وَإِنَّ القُرآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ، وَبَاطِنُهُ عَمِيقٌ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، وَلاَتَنْقَضِي غَرَائِبُهُ، وَلاَ تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إلاَّ بِهِ))([2])، فعجائب القرآن لا تنتهي عند حدٍّ معيَّن مهما بلغ، ولا يمكن أن نتصور في يومٍ من الأيام أنَّه قد انقضت أفكاره وانقطعت مضامينه فلم يعد يتلاءم مع الحياة المعاصرة أو ينسجم مع تطورها، وهذا الأمر يمكن لو كان القرآن بشريًّا صادرًا من مخلوق ناقص المعرفة، وأمَّا لو كان ممَّن خلق الكون وهو أعلم بأدقِّ تفاصيله وبما ينفعه ويضره ومع هذا الفرض فلا يمكن إلَّا أن يكون القرآن دستورًا دائمًا لضمان الحياة الكريمة في كلِّ وقتٍ وحين . ولذلك يأمرنا أمير المؤمنين (عليه السلام) بمتابعته وتعلُّمه والاستشفاء به، وهذا المعنى نجده في قوله (عليه السلام): ((وَتَعَلَّمُوا الْقرْآن فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ، وَتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ، وَاسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ، وَأَحْسِنُوا تِلاَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ))([3]) . ويؤكِّد أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا المعنى في نصٍّ آخر بقوله: ((أَلاَ إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتي، وَالْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي، وَدَوَاءَ دَائِكُمْ، وَنَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ))([4])، فأمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكِّد على دائميَّة القرآن واستمراريته في المستقبل من دون انقطاع، وكذلك احتوائه لحوادث الأزمان الغابرة، ومع هذا فهو الدواء لجميع العلل بما منحه الله تعالى من نور يُضيء القلوب وتشعُّ به الأرواح، وإذا كانت هذه صفته فحقَّ له أن يكون النظام للحياة برمَّتها . أمَّا قضية شفائه للأمراض فهو يمتلك طاقة عجيبة تعمل على تبديد أعتى الأمراض وأقواها، وقد أبان أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هوية أكبر داء وأعتى مرض في قوله: ((فَإنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالنِّفَاقُ، وَالْغَيُّ وَالضَّلاَلُ، فَاسْأَلُوا اللهَ بِهِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ، وَلاَ تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ، إنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إلَى اللهِ بِمِثْلِهِ))([5])، ومع قوَّة هذا المرض فإنَّ شفاءه متاح عن طريق الركون إلى القرآن الكريم واستنطاق آياته وأحكامه .
وعطاء القرآن لا يقف عند حدٍّ معيَّن ولا مع شخصٍ دون آخر وإنَّما عطاؤه يمتدُّ إلى كلِّ من يجالسه ويُطالع آياته، وفي هذا المعنى يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((وَمَا جَالَسَ هذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلاَّ قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَة أَوْ نُقْصَان: زِيَادَة فِي هُدىً، أَوْ نُقْصَان مِنْ عَمىً))([6]) . أمَّا في الآخرة فالقرآن له حظوة كبيرة في القيامة عند الله (عزَّ وجلَّ)، فهو الشافع الذي يشفع لمن تعاهده في الحياة الدُّنيا، ولمن جعل مدار حياته يدور حول أحكامه ومفاهيمه ومقاصده، وهذا المعنى أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: ((وَاعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَقَائِلٌ مُصَدَّقٌ، وَأَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ، وَمَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْه، فَإنَّهُ يُنَادِي مُنَاد يَوْمَ الْقِيَامةِ: أَلاَ إنَّ كُلَّ حَارِث مُبْتَلىً فِي حَرْثِهِ وَعَاقِبَةِ عَمَلِهِ، غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرآنِ; فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَاسْتَدِلُّوهُ عَلى رِّبِّكُمْ، وَاسْتَنْصِحُوهُ عَلى أَنْفُسِكُمْ، وَاتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ، وَاسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ))([7]) .
وممَّا سبق يظهر أنَّ ملازمة القرآن الكريم بالقراءة والمباحثة وتعاهده بالدراسة أمرٌ لا محيص عنه، وهو عبادة مهمَّة لا يمكن أن نقيِّدها بموسمٍ معيَّن كشهر رمضان كما يفهم ذلك بعض النَّاس، ومن هنا يجب أن يكون القرآن الكريم قرين أرواحنا لا نفارقه أبدًا؛ لكي لا نحرم أنفسنا من فيوضاته وبركاته، وأن نجعل له حضورًا لا يمكن تجاوزه في كلِّ يومٍ من أيَّامنا، كيف لا نكون كذلك والقرآن هو كلام ربِّنا وخالقنا، وقد أخبرنا أمير المؤمنين (عليه السلام) بنصوصه السابقة وغيرها من النصوص التي لم يسمح لنا المقام بذكرها عن أهميَّة القرآن في جميع مفاصل حياتنا في الدُّنيا والآخرة؛ بحيث لا يمكن أن نتجاوزه فيما لو أردنا أن ننال رضى الله تعالى. جعلنا الله تعالى وإيَّاكم ممَّن لزم القرآن الكريم وجعله سبيل نجاته.
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 44 .
([2]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 61 .
([3]) المصدر نفسه: 164 .
([4]) المصدر نفسه: 233 .
([5]) المصدر نفسه: 252 .
([6]) المصدر نفسه .
([7]) نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح: 252 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2708 Seconds