خُطَى الخُزَاعي
يغلب على سيرة الإنسان أنَّه لا يتوجه دائمًا إلى النعم المفاضة عليه كمًا وتنوعًا، ولا يلتفت إلى آثارها العظيمة التي تجعل من حياته ميسرة هانئة فتسهِّل له عملية الوصول إلى الله تعالى، وقد يرجع سبب الغفلة عن النعم وآثارها إلى اعتياده تلك النعم -التي تزامنت وبداية خلقته مستمرة في الحدوث والتنوع مع استمراريته في الحياة- فلا يرى فيها شيئًا غريبًا يتطلّب أن يتوقف عنده؛ بل حتى وإن التفت إلى ذلك عند أول النعمة تراه يعود إلى الغفلة عنها مع الوقت بأُلفتها واعتيادها، بل قد يذهب بعضهم إلى أبعد من الغفلة إلى حيث كفران النعم حين يرى أنَّ تلك النعم حقًا طبيعيًا له، وأنَّه من الواجب على الله تعالى إفاضتها عليه فيتعالى عن شكره والعياذ بالله.
ولعل نعمة العافية وسلامة البدن من المرض والآفة، من أكثر النعم التي قيل عنها أنَّها مجهولة القدر على الرغم ممَّا لها من عظيم أثر على مسيرة الإنسان في الحياة إلى التكامل، وما أن يعتري نعمة العافية السلب أو الانتقاص عندها سيدرك الإنسان أي نعمة جليلة كان غير مقدِّر لها فيكون سببًا في إيقاظه وتوجهه كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} (يونس: 12)، وعليه فيمكن أن يكون ما وراء ابتلاء الله تعالى عبده بالأدواء والعلل هو لتربيته وإلفاته إلى قيمة ما أسبغه الله عليه من نعمة الصحة، فيصحح تعامله مع تلك النعمة ويتعاطى معها مثمِّنًا شاكرًا وإن لم يستطع حق الشكر.
ولبيان قيمة نعمة صحة البدن لم يجعل المولى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه وسلامه) في المفاضلة دونها إلّا مرض القلب سلبًا، وليس إلَّا تقوى القلب فوقها إفاضة، وإن من صحة البدن تقوى القلب، فقال: ((أَلاَ وإِنَّ مِنَ الْبَلاَءِ الْفَاقَةَ، وَأَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ، وَأشدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ، أَلاَ وإِنَّ مِنَ النِّعَم سَعَةَ الْمَالِ، وَأَفْضَلُ مِن سَعَةِ الْمَالِ صِحّةُ الْبَدَنِ، وَأَفْضَلُ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْبِ))([1]).
وتكمن أيضًا وراء ابتلاء الله تعالى لعباده المؤمنين بالمرض وفقدان السلامة البدنية مقاصد منها: التكفير عن السيئات والإسقاط من تبعات الذنوب رفعًا لعقوبة الآخرة، كما جاء في كلام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) لبعض أصحابه في علة اعتلها: ((جَعَلَ اللهُ مَا كَانَ مِنْ شَكْوَاكَ حطّاً لِسَيِّئَاتِكَ، فَإِنَّ الْمَرَضَ لاَ أَجْرَ فِيهِ، وَلكِنَّهُ يَحُطُّ السَّيِّئَاتِ، وَيَحُتُّهَا حَتَّ الأوْرَاقِ...)) ([2]).
وفي طول ما تقدَّم من معنى قال الإمام الباقر (صلوات الله وسلامه عليه) عن حمران بن أعين: ((إن الله إذا كان من أمره أن يكرم عبدًا وله ذنب ابتلاه بالسقم، فإن لم يفعل ذلك ابتلاه بالحاجة، فإن لم يفعل ذلك شدَّد عليه الموت ليكافئه بذلك الذنب، وإذا كان من أمره أن يهين عبدًا وله عنده حسنة صحح بدنه، فإن لم يفعل ذلك به وسع له في معاشه، فإن لم يفعل هوَّن عليه الموت ليكافئه بتلك الحسنة)) ([3])، فإذا كان المؤمن ملتفتًا لنعمة العافية مؤديًا شكرها بما يتمكن فإن حصل وسُلِبها فيمكن أن يكون المقصد في ذلك التخفيف من ذنوبه؛ فيكون السقم ابتلاءً ظاهريًا بنعمة باطنة، وكما أُثر عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري (صوات الله عليه) قوله: ((ما من بلية إلا ولله فيها نعمة تحيط بها)) ([4])، وقد أفصح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ثلاث فوائد للمرض مسليًا المبتلى به؛ فقال مخاطبًا سلمان (رضوان الله تعالى عليه): ((يا سلمان إنَّ لك في علَّتك ثلاث خصال: أنت من الله تبارك وتعالى بذكر، ودعاؤك فيها مستجاب، ولا تدع العلَّة عليك ذنبًا إلَّا حطَّته)) ([5]).
وقد تكون الحكمة في ابتلاء الله تعالى للعبد المؤمن بالمرض، هو مزيد تكريم له ورفع درجات، فربمَّا تكون في الآخرة مراتب يحبُّ الله تعالى أن يرى عبده المؤمن فيها، ولمَّا كان ذلك المؤمن قاصرًا عن بلوغها بعمله فيبتليه الله تعالى في بدنه وصحته، ويجعل من ذلك سببًا لبلوغ تلك المنزلة. وهذا المضمون صرَّحت به روايات منها: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((إن الرجل ليكون له الدرجة عند الله لا يبلغها بعمله، حتى يبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك)) ([6])، وعن الصادق أيضًا (صلوات الله عليه): ((إن في الجنة منزلة لا يبلغها عبد إلا بالابتلاء في جسده)) ([7]).
نسأل الله تعالى العفو والعافية، وأن لا يسقمنا من غضب، وأن يلبس جميع الموالين من المرضى ثوب العافية، وأن يجعلهم ممَّن يقال لهم: ((ليهنك الطهر- أي من الذنوب - فاستأنف العمل)) ([8]) ، وصلى الله على رسوله وآله الطاهرين.
الهوامش:
[1])) نهج البلاغة، تحقيق: محمد عبدة: 4/ 93، كلام رقم (388).
[2])) نهج البلاغة، تحقيق: محمد عبدة: 4/12، حكمة (42).
[3])) التمحيص، محمد بن همام الإسكافي (ت: 336): 38، ح35.
[4])) بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111): 75/374، ح34.
[5])) الخصال، الشيخ الصدوق (ت: 381): 170.
[6])) بحار الأنوار، المجلسي (ت: 1111): 78/174.
[7])) الكافي، الشيخ الكليني (ت: 329): 2/255، ح14.
[8])) الأمالي، الشيخ الطوسي (ت: 460): 631.