خُطَى الخُزَاعي
الإخبار عن الآتي من الأحداث كان دأبًا نبويًا بإمكان أي متتبع للسيرة المُشرَّفة ملاحظته بوضوح، فكم قد أُثر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نقل في بيان ما سَيُقبل من فتن ويستجدُ من صراعات محدِّدًا جانب الحق فيها، ومحذِّرًا من مغبة الافتتان بأهل الباطل، بمعرض من جمهور متلقٍ سيزامن أو بعض منه الحدث موضوع البيان؛ فيقدِّم له المعالجة مستبقًا بها الحدث مبالغة منه (صلى الله عليه وآله) في هداية الناس وتوعيتهم وإيغالًا في إحكام للحجة وتمتينها، مستثمرًا لحظات حياته (صلى الله عليه وآله) في الهداية والتربية وإضاءة الطريق لأبعد نقطة فيه مترجمًا لطف الله تعالى وعنايته بخلقه.
وممَّا يتصل بما تقدَّم حرص النبي (صلى الله عليه وآله) على توثيق كل ما يتعلق بحق المولى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في ولاية أمر الأمة من بعده، بعد بيان هذا الحق صريحًا مرات عديدة في مناسبات متنوعة { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165)، وممَّا شمله الاعتناء النبوي إزاء القضية العلوية جانب الألقاب، إذ حرص (صلى الله عليه وآله وسلم) على تقليد أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) بالألقاب الكثيرة الكاشفة عن الحيثيات المتنوعة في شخصيته (صلوات الله عليه)، والمؤهلة له وهذا المقام العالي، وإنَّ كثرة ذكرها والتأكيد عليها بمحضر من الصحابة بمثابة توثيقها وإثبات حق أمير المؤمنين فيها، مستبقًا جريمة سرقتها من لدن منَّ تقمَّص المقام أولًا، فسجَّل بتوثيقها أحقية جانب أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وبطلان جانب المتقمص السارق، ولا مجال للاعتراض بالقول إنَّ مسألة الألقاب مسألة عامة فيحق لأي أحد من الصحابة مثلًا ما حقَّ لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) من ألقاب لاسيما إذا ما توفر في الشخص ما يحاكي اللقب من سيرة وخلق، ويُردُّ على ذلك بالقول إنَّ ألقاب أمير المؤمنين تنطوي على مراتب عالية المضامين؛ إذ مهما بلغ الشخص من تميز سيبقى دون الكمالات المتضمنة في الألقاب فضلًا عمَّن كان مفارقًا في سيرته وأدنى مضامين اللقب أصلًا، وعليه يمكن القول حتى وإن استأهل الشخص وصفًا معينًا يشابه ما وصف به المعصوم كالعبد الصالح مثلًا فإنَّ هذا لا يعني أنَّ الاشتراك في الوصف يعني الوحدة في الدلالة؛ فالعبد الصالح في المعصوم مقام عال متناسب وحقيقته التي لا مجال للمقايسة بينها وبين ما سواها من حقيقة؛ فدلالة الوصف في المعصوم غير الدلالة في غيره للتفاوت في المقام والحقيقة، وحتى بالتنزل عند هذا المستوى من القول لم يرد أيضًا من طرقنا أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أشرك مع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) غيره ممَّن استلبوا مقامه في ألقابه؛ ولذا على من يرى أنَّ ألقاب أمير المؤمنين حقًا غير مختص به وإنَّها قابلة للانطباق على غيره فليكن ذلك؛ ولكنه لا يستطيع أن يحجنا بنقله غير المقبول لدينا، مع ملاحظة أنَّ من الألقاب ما أكَّد رسول الله (صلى الله عليه وآله) على اختصاصها حصرًا بأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) محرِّمًا تعديتها إلى غيره حتى وإن كان المعدَّى إليه ما سواه من المعصومين أنفسهم (صلوات الله عليهم جميعًا) كلقب (أمير المؤمنين)، مؤكِّدًا هذه الخصوصية الإمام الحسن المجتبى (صلوات الله وسلامه عليه) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بردٍّ له على حِجر بن عدي الطائي عندما خاطبه بأمرة المؤمنين ((فقال له: يا أمير المؤمنين يسعك ترك معاوية، فغضب غضبًا شديدًا حتى احمرت عيناه، ودرت أوداجه، وانسكبت دموعه، وقال: ويحك يا حجر تسمني بإمرة المؤمنين وما جعلها الله لي، ولا لأخي الحسين، ولا لأحدٍ ممن مضى ولا لأحد ممَّن يأتي إلَّا لأمير المؤمنين وحده خاصة، أو ما سمعت جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لأبي: إنَّ الله سماك بإمرة المؤمنين، ولم يشرك معك في هذا الاسم أحدًا فما يتسمى به غيرك، وإلَّا فهو مأفون في عقله ومأفون في ذاته))([1])، ومن الأحاديث الموثّقة هذا اللقب لأمير المؤمنين (عليه السلام) أيضًا: قوله (صلى لله عليه وآله) وسلم: ((إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قال: وأنا قلته عن الله تعالى، إلا إنَّه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا، ولا تحل أمرة المؤمنين بعدي لأحدٍ غيره، ثُمَّ ضرب بيده إلى عضد علي فرفعه))([2])، وأيضًا عن قيمة هذا اللقب وشأنه عن حذيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: ((لو علم الناس متى سمي علي أمير المؤمنين ما أنكروا فضله، سمي أمير المؤمنين وآدم بين الروح والجسد، قال الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم} قالت الملائكة: بلى، فقال الله تبارك وتعالى: أنا ربكم ومحمد نبيكم وعلي أميركم))([3])، ومن الألقاب الأخرى التي طالتها يد المصادرة والانتحال لقبي الصدِّيق والفاروق فأُلصقا بغيره اجتراءً على الله ورسوله، وممَّا جاء في توثيقات هذين اللقبين من النقل عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أنَّه قال: ((أنا عبد الله، وأخو رسوله، وأنا الصدِّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كذّاب...)) ([4])، وأيضًا عن ابن عباس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): ((إنَّ عليًّا صدِّيق هذه الأمة، وفاروقها، ومحدثها، وإنَّه هارونها ويوشعها، وآصفها، وشمعونها، إنَّه باب حطتها، وسفينة نجاتها، إنَّه طالوتها وذو قرنيها))([5])، وكذلك: ((خذوا بحجزة هذا الأنزع يعنى عليًّا، فإنَّه الصدِّيق الأكبر، وهو الفاروق يفرق بين الحق والباطل، من أحبه هداه الله، ومن أبغضه أضله الله، ومن تخلَّف عنه محقه الله ...)) ([6]).
ونخلص إلى أنَّ الروايات الشريفة علاوة على توثيقها ألقاب المولى (صلوات الله عليه)، قد ذمَّت بعضها منتحل الألقاب ومدعيها، فما أن يطمح للقب طامح ويدعيه لنفسه أو يرتضيه حين يلصقه به غيره زورًا إلَّا وكان بانتظاره على لسان المعصوم وصفًا محقرًا ذميمًا، ولعل من أسباب ذلك ما سيطرح هذا الفعل من تداعيات كثيرة أخطرها تسخير اللقب المنتحل في جذب الناس والتغرير بهم، مضللين عن الحق ومُعميِّن على الحقيقة.
نسأل الله تعالى البصيرة والهدى بمحمد وآله الطاهرين.
الهوامش:
[1] اليقين، السيد ابن طاووس (ت: 664): 26، ح5.
[2] الاحتجاج، الشيخ الطبرسي (ت: 548): 1/76.
[3] بحار الأنوار، العلامة المجلسي (ت: 1111): 36/178، والآية (172) من سورة الأعراف.
[4] الخصال، الشيخ الصدوق (ت: 381): 402، ح110.
[5] مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب (ت: 588): 2/286.
[6] بصائر الدرجات، محمد بن الحسن بن فروخ (الصفار) (ت: 290): 73.