واقعة الغدير كرامة وابتلاء

أدب الغدير

واقعة الغدير كرامة وابتلاء

6K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 09-08-2020

عمَّار حسن الخزاعي:

الحمد لله ربِّ العالمين حمدًا كثيرًا كما يستحقُّه وكما هو أهله، والصلاة والسلام على خير خلقه محمَّد وآله الطاهرين..
الإيمان لا يأتي بالأقوال فقط؛ بل لابدَّ أن يستتبعه عمل يؤكِّد ما عُقد في القلب من ادِّعاء التسليم للأمر الإلهي، وحتَّى تكون الحجَّة البالغة لله وحده على الخلق أجمعين كان البلاء أحد أهم كواشف حقيقة مكامن القلوب، وعندما نستذكر حال الأمم التي سبقتنا نجد أنَّ الله تعالى ابتلاها بشتَّى أنواع البلاء من أجل الكشف عن المنافقين وأهل الزيغ والمدَّعين، مع العلم أنَّ الله تعالى يعلم بحقيقة القلوب وما أضمرت والنيَّات وما أخفت؛ ولكن ليحجَّ الإنسان الأكثر جدلا، وقد قال تعالى في محكم كتابه: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2 – 3] .

ولو نظرنا إلى الأقوام التي سبقتنا بنظرةٍ خاطفة لوجدنا أنَّ الذين اتَّبعوا الأنبياء والمرسلين قد أصابتهم الابتلاءات؛ فأصحاب النبي موسى (عليه السلام) ما إن تركهم ذاهبًا إلى ميقات ربِّه حتَّى ابتلاهم الله بالسَّامريِّ وعجله، ونصحهم هارون (عليه السلام) إلى الحقِّ مبيِّنًا لهم أنَّهم في فتنةٍ وابتلاء، وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله تعالى: (قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) [طه: 90]، وفي موضع آخر يبيِّن القرآن الكريم الابتلاء الذي أصاب طالوت وجنوده بقوله تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ) [البقرة: 249] .
ومن هنا صار الابتلاء ميزانًا كاشفًا عن الحقائق الكامنة في الصِّدور، وممحِّصًا للأقوال والأفعال، وهذا الأمر سُنَّة إلهيَّة جرت على الأمم، ومنها أُمَّة الخاتم محمد (صلى الله عليه وآله) التي ابتلاها بجملةٍ من الابتلاءات في حياة النبيِّ وبعدها، وكان أكبر ابتلاءٍ لها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فكان الميزان الكاشف للمؤمنين والمحكِّ الذي يكشف زيغ المنافقين، وقد قال فيه النبيُّ الأكرم محمَّد (صلى الله عليه وآله) تثبيتًا لهذا الأمر فيه: ((لَوْلا أَنْتَ يا عَلِيُّ لَمْ يُعْرَفِ المُؤْمِنُونَ بَعْدِي))([1])، ((وَكانَ بَعْدَهُ هُدىً مِنَ الضَّلالِ وَنُوراً مِنَ العَمى))([2])، وقد عُدَّت هذه المنقبة من أكبر فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وممَّا قيل في بيان منزلتها: ((وهذا الخبر بما تضمنه من مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) لو قُسِّم على الخلائق كلهم، من أوَّل الدهر إلى آخره لاكتفوا به شرفًا ومكرمة وفخرًا))([3]) .
وشبيه بالخبر المتقدِّم الوارد في مصادر الشيعة ما ورد في مصادر أهل السُّنَّة قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام): ((أنت قسيم النار، وإنك تقرع باب الجنة، وتدخلها بغير حساب))([4]). ويبدو أنَّ بعض النَّاس لم يرق له هذا الحديث أو لم يستطع أن يحتويه بأفقه الضَّيِّق؛ فسأل عنه أحمد بن حنبل في مجلسٍ من العلماء بقوله: ((يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا (عَلَيْهِ السَّلَامُ)، قَالَ: أَنَا قَسِيمُ النَّارِ؟ [فقال أحمد]: وَمَا تُنْكِرُ مِنْ ذَا؟ أَلَيْسَ رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) قَالَ لِعَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ . قُلْنَا بَلَى، قَالَ: أَيْنَ الْمُؤْمِنُ؟ قُلْنَا: فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: فَأَيْنَ الْمُنَافِقُ؟ قُلْنَا: فِي النَّارِ، قَالَ: فَعَلِيُّ قَسِيمُ النَّارِ))([5])، وممَّا قيل في معنى هذا الحديث أيضًا: ((يعني أن الناس فريقان: فريق معي فهم في الجنة، وفريق عليَّ فهم على ضلال كالخوارج))([6]) . وإلى هنا يتبيَّن مفهوم فرضية البحث التي تنصُّ على أنَّ الله تعالى ابتلى أُمَّة محمَّد بعليِّ ابن أبي طالبٍ، وامتحن إيمانهم بمدى تمسُّكهم به وطاعتهم له، وقد أرشدهم الرسول محمَّد (صلى الله عليه وآله) إليه، وأوصاهم باتِّباعه والكون تحت لوائه، وقد نصبه عليهم وليًّا من بعده في واقعة الغدير بعدما جاء من حجَّة الوداع بمعيَّة المسلمين حين وصل إلى موقع غدير خم؛ فجمع النَّاس تحت حرِّ الشمس الشديد في مفترق الطرق بعد أن حبس المتقدَّم ونادى على المتأخر، ولمَّا اجتمع القوم حوله قال: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ نَبَّأَنِيَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُ لَمْ يُعَمَّرْ نَبِيٌّ إِلَّا نِصْفَ عُمْرِ الَّذِي يَلِيهِ مِنْ قَبْلِهِ، وَإِنِّي لَأَظُنُّ أَنِّي يُوشِكُ أَنْ أُدْعَى فَأُجِيبَ، وَإِنِّي مَسْؤولٌ، وَإِنَّكُمْ مَسْؤولونَ، فَمَاذَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟» قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَجَاهَدْتَ وَنَصَحْتَ، فَجَزَاكَ اللهُ خَيْرًا فَقَالَ: «أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ جَنَّتَهُ حَقٌّ وَنَارَهُ حَقٌّ، وَأَنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ؟» قَالُوا: بَلَى، نَشْهَدُ بِذَلِكَ. قَالَ: «اللهُمَّ اشْهَدْ» ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ مَوْلَايَ، وَأَنَا مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَوْلَى بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا مَوْلَاهُ - يَعْنِي عَلِيًّا - اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي فَرَطُكُمْ، وَإِنَّكُمْ وارِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ، حَوْضٌ أَعْرَضُ مَا بَيْنَ بُصْرَى وَصَنْعَاءَ، فِيهِ عَدَدُ النُّجُومِ قِدْحَانٌ مِنْ فِضَّةٍ، وَإِنِّي سَائِلُكُمْ حِينَ تَرِدُونَ عَلَيَّ عَنِ الثَّقَلَيْنِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا، الثَّقَلُ الْأَكْبَرُ كِتَابُ اللهِ (عَزَّ وَجَلَّ)، سَبَبٌ طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ، وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَاسْتَمْسِكُوا بِهِ لَا تَضِلُّوا وَلَا تَبَدَّلُوا، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، فَإِنَّهُ نَبَّأَنِيَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ أَنَّهُمَا لَنْ يَنْقَضِيَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ))([7]) . وخبر الغدير ((لم يرد في الشريعة خبر متواتر أكثر طرقًا منه))([8])، ولا يوجد ((خبر في الشريعة ممَّا قد اتفق مخالفونا معنا على أنَّه متواتر نقلًا كنقله))([9])، وإذا ((لم يثبت بذلك صحته فليس في الشرع خبر صحيح))([10]) .
وبعد هذا العرض نصل إلى حقيقة مؤدَّاها أنَّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) كان وسيبقى الفيصل بين الإيمان والنِّفاق وبين الإيمان والشرك، وبين الجنَّة والنَّار، ومثلما كانت حادثة الغدير كرامة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ومنقبة من عظيم مناقبه فإنَّها أصبحت ابتلاءً يميِّز الله تعالى به بين المؤمن وغيره، وبين من يطيع إلهه ورسوله ومن يشاقق الرسول ويتَّبع هواه ومنافعه ومصالحه فيردى . وللبيان أكثر نستحضر مشهدين: الأوَّل؛ انهيال المسلمين بعد خطبة النبي في الغدير يبايعون أمير المؤمنين على الولاية، وممَّن بايعه في ذلك أبو بكر وعمر، وقد قال له الأخير في أثناء البيعة: بَخٍ بَخٍ لَكَ يَابْنَ أَبِي طَالِبٍ، أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ))([11])، وفي نقلٍ آخر أنَّ عمر قال: ((هَنِيئًا لَكَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ أَصْبَحْتَ مَوْلَايَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ))([12]) . وأمَّا المشهد الآخر؛ فهو بعد رحيل الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى عالم الملكوت، وفيه نرى أنَّ أمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام) وحيدًا ما خلا بعض المخلصين، وأمَّا السَّواد الأكبر فقد راحوا يهرعون خلف حكَّام السَّقيفة يتقربون إليهم بالبيعة زلفى، متناسين الغدير وغيره من الوقائع التي أمرهم الرسول بالاقتداء فيها بعليٍّ (عليه السلام)، وفعلهم هذا شبيه بفعل بني إسرائيل الذين تركوا هارون (عليه السلام) وتمسَّكوا بالسَّامريِّ وعجله، وشبيه أيضًا بموقف النَّهر مع طالوت وجنوده كما تقدَّم، وشبيه بأغلب الابتلاءات التي واجهت الأنبياء واتباعهم، وفي كلِّ مرَّةٍ لا ينجو سوى اليسير . وفي الغدير كان الابتلاء شديدًا فمن بايع بالأمس نصب نفسه للحكومة زعيمًا، ومن عاهد بالأمس ترك عهده متمسِّكًا بالسَّقيفة مبدءًا، وكلُّ ذلك والرسول مسجًّى لم يقبر بعد، ومن كان من قبل في حياته يدَّعي الصُّحبة والإيمان يتركه لاهثًا للسُّلطة ومكتسباتها، وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا المعنى في جوابه لجماعة من الأنصار: ((يا هؤلاء؛ أكنت أدع رسول الله مسجّى لا أُواريه وأخرج أُنازع في سلطانه؟ والله ما خفت أحداً يسمو له وينازعنا أهل البيت فيه، ويستحلّ ما استحللتموه، ولا علمت أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترك يوم غدير خمّ لأحد حجّة، ولا لقائل مقالاً)) ([13])، وكذلك نجد الإشارة إلى أنَّ الغدر بدأ والرسول لم يدفن بعد في قول الزهراء (عليها السلام): ((هذا وَالْعَهْدُ قَريبٌ، وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ، وَالْجُرْحُ لَمّا يَنْدَمِلْ، وَالرِّسُولُ لَمّا يُقْبَرْ، ابْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ {ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالْكافِرِينَ}))([14]) . ومن هنا فكما كان الغدير كرامة لأمير المؤمنين علي وأهل بيته (عليهم السلام) كان ابتلاءً لكلِّ من عاصر ذلك اليوم وإلى يومنا هذا، وعلى إثر ذلك الابتلاء تميَّز المدَّعي من صاحب الإيمان الحقيقي، وبانت مكامن القلوب، وخفايا النِّيَّات، فثبت من ثبت وهوى من هوى . جعلنا الله تعالى وإيَّاكم ممَّن يتمسَّك بولاية صاحب الغدير وأهل بيته قولاً وفعلًا، وممَّن امتحن الله قلوبهم وصدقوا معه في إيمانهم.

الهوامش:
([1]) الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي (ت: 283 هـ): 1/63 ، الأمالي، الشيخ الصدوق (ت: 381 هـ): 157 .
([2]) إقبال الأعمال، السيد ابن طاووس (ت: 664 هـ): 1/507 .
([3]) الغارات، إبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي (ت: 283 هـ): 1/63 .
([4]) مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [عليه السلام]، ابن المغازلي (ت: 483هـ): 121 .
([5]) ترتيب الأمالي الخميسية، يحيى (المرشد بالله) الشجري الجرجاني (ت: 499 هـ): 1/177 .
([6]) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، السمين الحلبي (ت: 756 هـ): 3/308 .
([7]) المعجم الكبير، أبو القاسم الطبراني (ت: 360هـ): 3/180 ، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال المتقي الهندي (ت: 975هـ): 1/188 – 189.
([8]) الاقتصاد، الشيخ الطوسي (ت: 460 هـ): 216 .
([9]) الرسائل العشر، الشيخ الطوسي (ت: 460 هـ): 134 .
([10]) الاقتصاد، الشيخ الطوسي (ت: 460 هـ): 216 .
([11]) مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [عليه السلام]، ابن المغازلي (ت: 483هـ): 46 .
([12]) مفاتيح الغيب، الفخر الدين الرازي (ت: 606هـ): 12/401 ، غرائب القرآن ورغائب الفرقان، نظام الدين القمي النيسابوري (ت: 850هـ): 2/616 .
([13]) الاحتجاج، الشيخ الطبرسي (ت: 548): 1/96.
([14]) المصدر نفسه: 1/137 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2699 Seconds