الحكمة في تأخير خروج حامل اللواء واثاره العسكرية على معركة الطف

مقالات وبحوث

الحكمة في تأخير خروج حامل اللواء واثاره العسكرية على معركة الطف

8K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 26-08-2020

بقلم السيد نبيل الحسني

الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرِين...
وبعد:
جرت العادة في نظام الجيوش أن تخصص ألوية تحمل كلمات أو رموزاً تدلل على عقيدة هذا الجيش أو ذاك، أو أنها تدلل على الصنوف القتالية ضمن الجيش الواحد فللفرسان لواء، وللرجالة لواء وهكذا.
أما في وقتنا المعاصر فقد تعددت صنوف الجيوش وتعددت معها الألوية أو الرايات التي ترشد إلى صنف هذه الفرق، أو الكتائب، فضلاً عن بيان عقيدتها القتالية أو الوطنية.
أما دور هذه الرايات أو الألوية في المعركة فقد ظهرت أهميتها بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحرب المشركين في معركة بدر الكبرى فدفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وكان أبيض اللون وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب عليه السلام يقال لها العقاب والأخرى مع بعض الأنصار([1]).
ويمكن لنا الوقوف عند أهمية اللواء في الجيش والمعركة من خلال وصية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى قادة جيشه فقال:
«ورايتكم فلا تميلوها ولا تخلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم والمانعين الذمار منكم، فإن الصابرين على نزول الحقائق هم الذين يحفون براياتهم، ويكتنفونها حفافيها ووراء ها وأمامها لا يتأخرون عنها فيسلموها، ولا يتقدمون فيفردونها»([2]).
وهذا النص الشريف يظهر دور اللواء في المعركة وآثاره على المعسكرين بحد سواء فأما على معسكر أهل الإيمان فقد أوصى عليه السلام بالالتفاف حول اللواء وأن يحرصوا على عدم إمالتها بل ترفع بشكل مستقيم وذلك لما تدل من تماسك الجند وانقياده للقائد وهذا يترك أثراً معنوياً على العدو فضلاً عن أصحاب اللواء.
ولذا:
أوصى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بأن لا تجعل الراية إلا بأيدي رجال لهم صفات محددة لما يترتب على حركتهم وتنقلهم في المعركة من آثار لكلا المعسكرين، وهذه الصفات، هي:
1 - الشجاعة المعروفة بين الجند، لقوله عليه السلام:
«ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم».
2 - المانعين الذمار؛ وهم الذين عرفوا بحفظ الأعراض والأموال.
والعلة في هاتين الصفتين تكمن في انعكاسها على الجند، وذلك:
أ: إن الجند الذين يصبرون على نزول الموت في المعركة هم الذين يحفون بالراية.
ب: وإنهم يتحركون تحت ظلها وحركتها حينها ترفرف فيكونون مع الراية مرة أمامها وأخرى وراءها.
ج: لا يتأخرون عنها فيسلمونها للعدو.
د: ولا يتقدمون عليها فيجعلونها فريدة في ساحة المعركة.
وهذه الوصايا والتعليمات تركز على أمرٍ في غاية الأهمية، وهو: أن اللواء هو قطب المعركة وموضع كاشفية المقاتلين وطبيعة روحهم المعنوية مما يحقق آثاراً عديدة في سير المعركة.
من هنا:
فإن إعطاء الإمام الحسين عليه السلام اللواء لأخيه العباس عليه السلام يدل على تلك الخصوصيات التي حددها الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام في وصيته لقادة الجيش، وانحصارها في شخص أبي الفضل العباس عليه السلام فضلاً عما تميز به من خصائص عديدة كشفها حاله في المعركة حينما برز إلى القوم وقد قصد في بادئ الأمر جلب الماء من نهر الفرات إلى عيال أخيه من النساء والأطفال.
إذ ليس بالأمر اليسير أن يستطيع رجل واحد أن يكشف خمسمائة فارس كانوا موكلين بحفظ ماء الفرات بقيادة عمرو بن الحجاج وهو صاحب ميمنة جيش السلطة الأموية، وقد حرص حرصاً شديداً لمنع الحسين عليه السلام وأصحابه من الوصول إلى الماء؛ وبخاصة أن هذا الفعل قد تكرر مرتين في كربلاء، أي: إن أبا الفضل كشف هذا العدد وأزاحهم عن نهر الفرات مرتين.
فكانت الأولى في اليوم السابع من المحرم أي قبل وقوع المعركة بثلاثة أيام([3]).
والأخرى كانت يوم العاشر حينما طلب منه الإمام الحسين عليه السلام أن يجلب لهؤلاء النساء والأطفال شربة من الماء.
ولهذه العلة نجد أن الإمام الحسين عليه السلام لم يأذن لأبي الفضل في يوم العاشر في التقدم للقتال؛ أي بمعنى:
إن العادة جرت في الجيوش أن يكون حامل اللواء في قلب المعركة لما مرّ بيانه من توصيات لأمير المؤمنين علي عليه السلام لقادة جيشه في خصائص اللواء وحامله، ومن ثم يتركّز دوره في المعركة؛ في حين نجد أن الإمام الحسين عليه السلام قد أخر في خروج أبي الفضل عليه السلام فما هي الحكمة في ذلك؟
وجوابه من نقاط:
1 - إن الإمام الحسين عليه السلام مع مراعاته لتلك الوصايا التي سمعها من أبيه عليهما السلام إلا أن معركته لم تكن هجومية منذ بدء وقوعها سوى بعض الاستثناءات التي اقتضتها، ولذا: كانت المصلحة الحربية تقتضي تأخير خروج حامل اللواء.
2 - إن أصحاب الإمام الحسين عليه السلام هم من الأساس كانوا جامعين ومحرزين لكل صفات الروح القتالية والإيمانية فلم ير أحد مثلهم لا من قبلهم ولا من بعدهم فهم بهذه الحالة يصبح كل واحد منهم جيشاً بحد ذاته وأمة كما كان إبراهيم عليه السلام أمة في نفسه، ولذا: نجد أن الإمام الحسين عليه السلام قد أثنى عليهم بقوله:
«إني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله خيراً».
3 - في جميع المعارك يبقى اللواء دليل قيام الجيش وعدم انكساره وهزيمته، فإذا سقط اللواء كان ذلك له تأثيراً على العسكرين بالهزيمة والانكسار ولذا: كان المسلمون يحرصون أشد الحرص على عدم سقوط الراية في المعركة لهذه العلة.
ومن هنا:
حرص أبو الفضل العباس عليه السلام بحفظ اللواء وعدم سقوطه حينما ذهب لجلب الماء من نهر الفرات فقد قطعت يده اليمنى فحمل اللواء بما بقي له من عضد وأخذ السيف باليد اليسرى يقاتل به ثم كمنوا له مرة أخرى فقطعوا يده اليسرى فانحنى على اللواء كي لا يسقط فضرب بعمود من حديد على رأسه.
وهذه الصورة لم تكن بالغريبة على آل أبي طالب، فبالأمس كان عمه جعفر بن أبي طالب شهيد مؤتة حاملاً للواء الإسلام في قتال الروم فقطعت يداه فحمل اللواء بما بقي من عضديه ثم طعن فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذي الجناحين يطير بهما في الجنة([4]).
وهكذا هو أبو الفضل العباس عليه السلام كان كعمه في ساحة المعركة فضلاً عما كان يدافع من أجله، فهناك كان جعفر يقاتل لنشر الإسلام وهنا يدافع أبو الفضل عن كل الإسلام، عن التوحيد والنبوة والإمامة، والرجولة بكل ما بالكلمة من معنى؛ فضلاً عن الجوانب الإنسانية والأخلاقية في حمل الماء للنساء والأطفال ومنع نفسه من التذوق بقطرة من هذا الماء إيثاراً لأخيه وإمامه الغريب الوحيد الذي تحيط به الأطفال المذعورة والنساء المذهولة.
4 - إن ما كان يتمتع به أبو الفضل العباس عليه السلام من سمات القيادة والفروسية والبأس والشدة والقوة التي جربها الأعداء من قبل حينما كشف ميمنة جيش السلطة الأموية وهم لم تنهكهم المعركة بعد ولم يتصوروا أن يتقهقروا بهذا الشكل حينما برز إليهم أبو الفضل وقد تكاملوا خمسمائة فارس كان ذلك بحد ذاته يشكل نصراً استراتيجيا وقوة مساندة لسيد الشهداء عليه السلام.
وعليه:
نجده عليه السلام قال لما استشهد العباس:
«الآن انكسر ظهري وشمت بي عدوي»([5]).
5 - إن ما يتمتع به حجة الله تعالى من خلق نبوي يمنعه من ترك النساء دون حمىً؛ ولذا: كان من الحكمة أن يؤخّر الإمام الحسين عليه السلام خروج أبي الفضل؛ كي لا تبقى النساء غرضاً للهجوم حينما كان يتحرك الإمام الحسين عليه السلام في المعركة بين التوجيه لأصحابه وبين تلبية نداء بعض أصحابه وأهل بيته حينما يسقطون على الأرض وهم يحرصون على توديعه في هذه اللحظات الأخيرة وأن تغمض عيونهم في وجهه الكريم.
فهذه الأسباب وغيرها جعلت الإمام الحسين عليه السلام يؤخر في خروج حامل اللواء أبي الفضل العباس عليه السلام إلى هذا الوقت من المعركة ولذا: ترك استشهاده ألماً عظيماً في قلب ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبموته بقي الحسين عليه السلام وحيداً بكل ما للكلمة من معنى ودلالة؛ فقد سقط اللواء.
ولم يبق أمامه إلا ملاقاة القوم بنفسه المقدسة لإحياء دين جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي تكالب على نهشه كلاب الوثنية وذئاب النفاق، فقد آن الوقت لفدي الدين بذبح عظيم؛ وهو الذي هيأه جده من قبل لهذا اليوم فأعد له عدته من الأهل والأصحاب حتى الطفل الرضيع ونفسه المقدسة.

الهوامش:
([1]) الدرر لابن عبد البر: ص102؛ السيرة النبوية لابن هشام: ج2، ص445.
([2]) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج5، ص187.
([3]) تاريخ الطبري: ج4، ص312؛ نهاية الأرب للنويري: ج20، ص428؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج3، ص181؛ الكامل في التاريخ: ج4، ص53.
([4]) الطبقات الكبرى لابن سعد: ج1، ص122؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج9، ص166.
([5]) البحار للمجلسي: ج45، ص42.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2816 Seconds