خُطَى الخُزَاعي
الحمد لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلَام على خير خلقه أجمعين وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين..
وبعد:
((كان عمنا العباس بن علي نافذ البصيرة صلب الايمان جاهد مع أبي عبد الله (عليه
السلام) وأبلى بلاءً حسنًا ومضى شهيدًا)) ([1])
ما إن رآه حتى رسمه ...
مربوبٌ خارق، تضيق بأبعاده حدود الأُسطورة، ويتقزَّم عند قامته سقف الخيال، لا يُطِيقه سوى الإعجاز، ولا يستوعبه غير المبدأ، يصنع تفاصيل ملحمة عظمى فيتعقبه الخلود طامعًا في النسبة إليه على غير سيرته مع أبطال ملاحم الدنيا، ينوء بِلَم شموخه أصيل مطهم، فتتعالى هامته تلامس بريشتيها عنان السماء فخرًا، وتخط رجلاه الأرض صولةً وتعبدًا، يشع من جبهته مزاج نور وبهاء كما القمر، يوقّع باستثنائية الحضور على مشاهد كربلاء، فترتضيه عمدًا لأركانها، وعميدًا في تفاصيلها.
يتجمهر الأطفال احتفالًا إذا ما حلَّ بينهم، يتراقصون حوله كما الطيور حين يغمرها الأمان، يُودِعون جوده أمنياتهم، ثم يجلسون بانتظاره كأغصان زيتون على أمل الارتواء.
يتعاهد الخدر ذهابًا وجيئةً، تعكسه الأستار ملاكًا حارسًا فتنعم ربات الحجال على ظله بنومة ملء الجفون.
يشغل الجهات الأربع، يدور ما دار الإمام (عليه السَّلَام)، يحوطه جيشًا مغنيًا له عن إمداد السماء.
يتجلّى بعين العدو أمة لا تُطاق مُلاقاته ولا تُستطاع منازلته، تنخلع القلوب من أقفاصها هيبةً له وفرقًا منه.
هكذا كان يرسمه عليًّا حين استلمه للمرة الأولى...
انتقى لرسمته من الألوان أغلاها إباءً وشموخًا وغيرة وإيثارًا، ثم أكثرها وجعًا ولوعة وحرقة، كان يُشكِّله مستحضرًا كربلاء، مستنطقًا إياها عمَّا يعوزها لتخلد، فتلهمه بتشكيلة أسطورته المرتقب.
لوهلة... نفخت السماء في الرسم العلوي روحًا من العُلا، فكان يرى العبَّاس (عليه السَّلَام) عيانًا ممتطيًا ذروة المجد مترجِّلًا على النهر يزهد فيه بيد ويشتريه أمنية منتظرة بيد أخرى بنفس عزَّ نظيرها، فيرتضي له ما خُطَّ في اللوح من نهاية بجناحين من مجد وخلود.
يعود مجدَّدًا ينظر وليده بعين مفتخر مشفق، تفيض بدمع شكر ولوعة يتعاهد به يديه، جبهته، عينه، ثم يضمه ويناغيه: مبارك بني منزلة يغبطك عليها كل الشّهداء.
الهوامش:
[1])) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، أحمد بن علي الحسيني (ت: 828): 356.