خُطَى الخُزَاعي
لم تُدرك اليتيمة الصغيرة قدر ما مُنيت به من فقد، كل ما استطاعت استيعابه أنَّ أمورًا قاسية قد حدثت، وأنَّها قد أُقحمت في مشاهد مؤلمة من دون أن تستبين لها أسباب ذلك، أو يتجلّى لفهمها ما بلغته المصيبة من مبلغ.
عطش قاسٍ أكبر ممَّا يمكن أن يكون لطفلة من جلد، ألسنة نيران سليطة تناهشت أطراف ثوبها، فرار إلى اللاوجهة سرَّعته كَيّات جمر متوقدة، يد آثمة تعقبت صرختها المسترحمة فسلبتها قرطًا بلا رادع من مروءة، ثم قيود وأغلال وسياط تجاسرت متشاطرة على سنيها الثلاث، تصبَّرت كما الكبار، ورأت أنَّ سقف تحملها يستوعب كل ذلك ما دام أنَّ والدها بخير وأنَّها ستلتقيه وشيكًا سالمًا.
تنفست شيئًا من الأمان حين انتشلتها يد العمَّة الرَّحيمة من كل تلك التفاصيل الغريبة القاسية، وأخذتها إليها تمسح على رأسها تلك المسحة المعهودة، لم تقرأ رُقَيّة من تلك المسحات ما صعُب على زينب (صلوات الله تعالى وسلامه عليها) مواجهتها به، أصرَّت الطفلة على ألّا تعيَ وواصلت الحاحها سائلة عن والدها، الذي كانت تجهل مرافقته إياها رأسًا على رمح طول مسرى الأسر؛ فالعمَّة كانت دائمًا تدير وجه الصغيرة جهتها، وكانت تنصت إليها بتوجع حينما كانت تسترسل في الحديث عن حلمها، وتتوجع أكثر عندما كانت تباغتها الطَّفلة ناظرة إلى عينيها بتساؤل أن كانت تشعر عمَّتها بما تشعر به من أنَّ والدها بالقرب منها ينظر إليها ويرعاها، فلا تتمالك العمَّة إلّا أن تضمّها إليها بشدّةٍ وهي تنظر الرَّأس الشَّريف إلى ظهرها فتسكب بصرخةٍ مكتومة عبراتها.
كانت تحسب ببراءتها أنَّ كل ما رأته كان هو الأسوأ، وأنَّه الحد المتناهي الذي لا مزيد عليه في الوحشية، وكان ممَّا يخفف عنها ما اعتقدته من أنَّ والدها لم يدخل دائرة هذا الحدث الأسوأ، فتعلل بحديث مع نفسها أنَّ لأبيها من الشأن ما لا يمكن معه أن يطاله تعدٍّ، وأنَّ السماء تأبى مس قداسته.
كانت متيقنة أنَّ الجِمال الهزيلة تسير بها إلى حيث ملتقاها بالأب الحاني فيمر على روحها سكن مشوب بلهفة، فتغفو بحضن العمَّة متشبثة بيديها، وروحها تتشبث بالحلم، عسى أن تختصر بغفوتها شيئًا من زمن الانتظار.
انتهت خدعة الانتظار على كابوس صحوة وهي تنظر إلى حلمها مذبوحًا في حجرها، لم تطق ما رأت، رفضت روحها أن تُسلَب أغلى الأحلام؛ ففرت هربًا جهته متعدية قيد الحياة إلى حيث غفوة الموت.
رويَ بشأنها: أنّ نساء أهل بيت النّبوّة أخفين على الأطفال شهادة آبائهم وقلن لهم إنّ آباءكم قد سافروا إلى كذا وكذا، وكان الحال على ذلك المنوال حتّى أمر يزيد بأن يدخلن داره، وكان للإمام الحُسَين (عليه السَّلَام) بنت صغيرة قامت ليلة من منامها وقالت: أين أبي الحُسَين (عليه السَّلَام) فإنّي رأيته السّاعة في المنام مضطربًا شديدًا، فلمّا سمع النّسوة ذلك بكين وبكى معهن سائر الأطفال وارتفع العويل، فانتبه يزيد (لعنه الله) من نومه وقال: ما الخبر؟ ففحّصوا عن الواقعة وقصّوها عليه، فأمر بأن يذهبوا برأس أبيها إليها، فأتوا بالرّأس الشّريف وجعلوه في حجرها، فقالت: ما هذا؟ قالوا: رأس أبيك. ففزعت الصّبيّة وصاحت فمرضت وتوفّيت في أيّامها بالشّام، وروى هذا الخبر في بعض التّأليفات على نحو آخر وفيه: فجاؤوا بالرّأس الشّريف إليها مغطّى بمنديل دبيقيّ، فوضع بين يديها وكشف الغطاء عنها، فقالت: ما هذا الرّأس؟ قالوا: إنّه رأس أبيك، فرفعته من الطست، حاضنة له وهي تقول: يا أبتاه من ذا الّذي خضبك بدمائك، يا أبتاه من ذا الّذي قطع وريديك، يا أبتاه من ذا الّذي أيتمني على صغر سنّي، يا أبتاه من بقي بعدك نرجوه، يا أبتاه من لليتيمة حتّى تكبر وبكت بكاء شديداً حتّى غشى عليها، فلمّا حرّكوها فإذا هي قد فارقت روحها الدّنيا، فلمّا رأى أهل البيت ما جرى عليها أعلوا بالبكاء واستجدّوا العزاء وكلّ من حضر من أهل دمشق فلم يُر ذلك اليوم إلاّ باك وباكية([1]).
الهوامش:
[1])) موسوعة شهادة المعصومين (عليهم السلام)، لجنة الحديث في معهد باقر العلوم (عليه السلام): 2/386-387.