بقلم: السيد نبيل الحسني
((الحمدُ لله الذي إليه مصائرُ الخلق، وعواقبُ الأمر، نحمَدُهُ على عظيم أحسانهِ، ونير برهانه، ونوامي فضله وأمتنانهِ، حمداً يكون لحقهِ قضاءً، ولشكره أداءً، وإلى ثوابه مقرباً، ولحسن مزيده موجباً))[1].
وصلواته التامات الزاكيات على حبيبه أبي القاسم محمد ((عبده الصفيُّ، وأمينه الرضيُّ))[2] وعلى آله الطاهرين.
أما بعد:
فقد أفادت النصوص في معرض بيانها لمجريات وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوع اختلاف بين الصحابة في موضع دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!!
قال الحافظ السيوطي (ت: 911هـ)
لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أشرأب النفاق، وارتدت العرب، وانحازت الأنصار، واختلفوا أين يدفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما وجد عند ذلك من أحد علم([3]).
فأراد أهل مكة من المهاجرين ردهُ إليها لأنها مسقط رأسه وبلده الذي ولد فيه([4]).
وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته ومدار نصرته([5]).
وأرادت جماعة نقله إلى بيت المقدس لأنه موضع دفن الأنبياء([6]).
وقال آخرون بل بمسجده([7]).
وقال غيرهم بل بالبقيع([8]).
ثم اتفقوا على دفنه!! فدفنوه بحجرته حيث قبض([9]).
وقد أشار السيوطي إلى أن مردّ ذلك هو قول أبي بكر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
((ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه))([10]).
وحينما يقرأ المسلم أو غيره من الديانات الأخرى هذه الرواية فإنه بلا شك سيشعر بالأسى والألم لما المَّ بالصحابة من المهاجرين والأنصار في اختلافهم إلى هذا المستوى في دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيفكر مليا فيما حدث، ويبحث عن الأسباب.
فهل حقا حدث هذا الأمر المحزن أم لا، وإذا كانوا قد اختلفوا في دفن النبي إلى هذا المستوى فكيف سيكون حالهم في غيره من أمور الأمة وقيام الإسلام؟!!
ونقول:
إنّ الرواية على الرغم مما تصرخ به من الألم واثارتها لكثير من الأسئلة إلا أنها صيغت بعناية كبيرة لهدف محدد سيمر بيانه لاحقا ولكنها فضلا عن ذلك فهي تثير كثيراً من الأسئلة - كما أسلفنا - وهي كالآتي:
أولا: لماذا تركهم النبي دون وصية، بل لماذا لم يوصِ هو بحاله من أمور تجهيزه وتغسيله والصلاة عليه وليمنع في هذه الوصية هذا الخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار؟ فأما أنه أوصى فيكون هذا الخلاف بين الصحابة لا أساس له من الصحة وبه يتضح كذب الذين قالوا أنه لم يوص.
وأما أنه لم يوص فنشأ هذا الخلاف بين المهاجرين والأنصار في موضع دفن رسول الله إلى هذا المستوى وبه تخرج النصوص من البحث عن العلة في اختلاف الصحابة؛ أي أنه (صلى الله عليه وآله) لم يوص بشيء وهذا محال لأنه مخالف للقرآن في لزوم الوصية للمسلم.
ثانياً: تُرى ما الذي فعله النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) للمهاجرين والأنصار حتى أراد البعض منهم نقل جثمانه إلى فلسطين ودفنه في بيت المقدس وكأنه نبي من أنبياء بني إسرائيل؟!!
ثالثاً: أين أهله وعشيرته؟! أين بنو هاشم وبنو عبد المطلب، أين عمه العباس! وأين علي أمير المؤمنين عليه السلام؟!
لماذا غيبوا عن الحدث؟! وكأن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ليس من العرب ولا تربطه بهم روابط القرابة والعشيرة.
رابعا: ما الذي جعلهم يتفقون على دفنه بعد هذا الاختلاف الكبير وتعدد الآراء؟!.. وكيف تسنى لهم اختيار حجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) محلاً لدفنه.. أفهل أوحي إليهم؟ أم أن أحداً ملكهم برأيه واستجمع قلوبهم بقوله؟!
خامسا: قول الحافظ السيوطي: فما وجد عند ذلك من أحد علم، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
«ما من نبي يقبض إلا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه»(1).
يؤكد أن الرواية صيغت بعناية كبيرة ولهدف محدد، وذلك لما يلي:
1- أرادت أن تصف أبا بكر بأنه رجل المرحلة وصاحب الحلول في الأمور المعضلة، لاسيما معضلة دفن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو كان على المساس بشأنية المهاجرين والأنصار حيث أراد بعضهم نقله إلى بيت المقدس.
2- تفرد أبو بكر بسماعه لحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - فيما يتعلق بدفن الأنبياء - دون أحد من الناس بحيث: «لم يوجد أحد عنده علم بذلك» غير موضوعي.
لاسيما أن هذا التفرد يفتقر إلى كثير من النصوص التي تعاضده فتؤكّد هذا المعنى، مثلما تضافرت النصوص في اختصاص علي أمير المؤمنين (عليه السلام) بعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
3- هذه الرواية عند أهل الحديث من «الآحاد»، وفيها قال البزار: هذا الكلام لا نعلم من رواه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أبو بكر([11]).
وعليه:
هل كان أبو بكر حاضراً عند دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
والجواب: لم يكن حاضرا.
بدليل:
1- ما رواه ابن إسحاق وغيره عن عائشة قالت: «ما علمنا بدفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سمعنا بصوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء»([12]).
2- ما رواه ابن أبي شيبة وهو من شيوخ البخاري: «إن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانا في الأنصار فدفن النبي قبل أن يرجعا»([13])!!
فمتى سمع أبو بكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول له وحده دون غيره كما يقول السيوطي: (فما وجد عند ذلك من أحد علم)!.. ومتى اختلفوا بمحضره في دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. فأشار عليهم؛ وهل حقا هو الذي رد على اختلافهم، أم ان الأمر منوط بوصي النبي (صلى الله عليه وآله) الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟!
إذن:
لم يكن أبو بكر وعمر وكثير من المهاجرين والأنصار قد شهدوا دفن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وان الذين شهدوا دفن النبي هم قلة قليلة من أصحابه جاءوا لمواساة الإمام علي (عليه السلام) وبني هاشم فهم أهل المصاب.
أما حقيقة الاختلاف بين الصحابة فقد وقع بين أولئك النفر القليل الذين حضروا عند دفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيهم بنو هاشم، وأن الذي قطع هذا الخلاف بينهم هو الإمام علي عليه السلام وذلك لكونه المخصوص بتجهيز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ومواراته وذلك بوصية منه (صلى الله عليه وآله وسلم).
إلا أن هذه الوصية لم تمنع من وقوع الخلاف بين أولئك النفر القليل من الصحابة الذين حضروا دفن نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أهل بيته وبني عمومته وقد أشار إلى ذلك الشيخ المفيد قائلا:
وقبره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة في حجرته التي توفي فيها، وكان قد أسكنها في حياته عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة، فلما قبض (صلى الله عليه وآله وسلم) اختلف أهل بيته ومن حضر من أصحابه في الموضع الذي ينبغي ان يدفن فيه، فقال بعضهم: يدفن في البقيع، وقال آخرون: يدفن في صحن المسجد. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
(إن الله تعالى لم يقبض نبيه عليه السلام إلا في أطهر البقاع فينبغي ان ندفنه في البقعة التي قبض فيها).
فاتفقت الجماعة على قوله ودفن في حجرته على ما ذكرناه([14]).
إلا أن الهدف من الرواية هو أنها أرادت أن تعطي للقارئ بعض الصور التي تصب في مصلحة السلطة فضلا عن تمريرها لبعض الأحداث والوقائع الكاذبة:
الصورة الأولى
اجتماع المهاجرين والأنصار لحظة وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واهتمامهم بدفنه. وهو ما لم يحدث قطعاً إذ لم يشهد دفن النبي كثير من الصحابة، لا سيما أبي بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من وجوه المهاجرين والأنصار، وانشغالهم بالسقيفة.
الصورة الثانية
تسجيل موقف لأبي بكر في جمع الصحابة على رأي واحد في معضلة دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وهو ما لم يحدث أيضا كما أسلفنا.
الصورة الثالثة
لإثبات أكذوبة ان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوص بوصية إلى أمته؛ بل لم يوص حتى بنفسه مما أدى إلى هذا الاختلاف بين الصحابة؛ وهو ما لم يحدث أيضا.
فهذه بعض الأهداف التي أرادت الرواية تمريرها؛ في حين أن الرواية أعطت صورة موحشة عن جميع الصحابة لاختلافهم في دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فضلا عن انها كشفت عن حقيقة مرة، وهي: ان هناك كثيراً من الأكاذيب قد ألمت بهذه السيرة مما أدى إلى هذا التعارض الذي يدل على ان الباطل من سننه انه يضرب بعضه بعضا. وان أهل الباطل مهما جهدوا فإنهم لن يستطيعوا قتل الحقائق؛ فكان منها: تولي أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) جميع شؤون رسول الله (صلى الله عليه وآله) حياً وميتاً، قال عليه السلام: ((وَلَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللهِ(صلى الله عليه وآله) وَإِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي. وَلَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَىُ وَجْهِي. وَلَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ (صلى الله عليه وآله) وَالْمَلاَئِكُةُ أَعْوَانِي، فَضَجَّتِ الدَّارُ والاْفنِيَةُ، مَلاٌ يُهْبِطُ، وَمَلاٌ يَعْرُجُ، وَمَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ، يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ. فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَمَيِّتاً))([15])([16])؟
الهوامش:
[1]( نهج البلاغة بتحقيق شيخ قيس العطار: ص 401 – 402ط العتبة العلوية.
[2]( المصدر السابق.
([3]) سمط النجوم العوالي: ج2 ص250، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص81-82، الجوهرة للبري: ج2 ص96 ط دار الرفاعي.
([4]) تاريخ مختصر الدول لابن عربي: ص95 ط المطبعة الكاثوليكية، تاريخ مختصر الدول لابن عربي: ص95 ط المطبعة الكاثوليكية تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص81-82، أخبار الدول للقرماني: ج1 ص270.
([5]) تاريخ مختصر الدول لابن عربي: ص95.
([6]) أخبار الدول للقرماني: ج1 ص270، تاريخ مختصر الدول: ص95، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص81-82.
([7]) سنن ابن ماجة: ج1 ص ط مؤسسة علوم القرآن، مصباح الزجاجة: ج2 ص57.
([8]) أخبار الدول: 270، تاريخ السيوطي: 81-82.
([9]) تاريخ مختصر الدول لابن عربي: ص95، أخبار الدول للقرماني: ج1 ص270، تاريخ السيوطي: ص81-82.
([10]) سمط النجوم العوالي: ج2 ص250، تاريخ السيوطي: ص81-82، أخبار الدول للقرماني: ج1 ص270.
(1) تاريخ السيوطي: ص81-82، سمط النجوم العوالي: ج2 ص250، أخبار الدول للقرماني: ج1 ص270.
([11]) مسند البزار: ج1 ص130 برقم 61 ط مؤسسة علوم القرآن بيروت.
([12]) السيرة النبوية لابن هشام: ج4 ص1078؛ مسند احمد: ج6 ص62 و242؛ السنن للبيهقي: ج3 ص409؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج3 ص227؛ المصنف للصنعاني: ج3 ص520؛ المغني لابن قدامة: ج2 ص417؛ نيل الاوطار للشوكاني: ج4 ص137؛ الشمائل للترمذي: ص 204؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج2 ص305، تاريخ الطبري: ج3 ص217، تاريخ الإسلام للذهبي – السيرة النبوية: ص582؛ عمدة القاري للعيني: ج8 ص121؛ تنوير الحوالك للسيوطي: ص240؛ الجوهرة للبري: ج2 ص96 ط دار الرفاعي، التمهيد لابن عبد البر: ج24 ص396 ط وزارة الأوقاف بالمغرب، حاشية ابن القيم: ج8 ص309 ط دار الكتب العلمية.
([13]) المصنف لابن أبي شيبة: ج7 ص432 برقم (37046) ط مكتبة الرشد بالرياض؛ وج8 ص572 ط دار الفكر؛ الإكمال في أسماء الرجال للخطيب التبريزي: ص21؛ وص 125.
([14]) المقنعة للشيخ المفيد (رضوان الله تعالى عليه): ص457؛ وعنه شيخ الطائفة الطوسي (طيب الله ثراه) في التهذيب: ج6 ص3؛ وابن شهر اشوب في المناقب: ج1 ص206؛ وابن أبي حاتم في الدر النظيم: ص196؛ والعلامة الحلي في منتهى المطلب: ج2 ص887.
[15]) نهج البلاغة، بشرح محمد عبده: ج2، ص172، ط دار الذخائر- قم.
[16]( لمزيد من الاطلاع، ينظر: وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وموضع قبره ووصيته بين اختلاف أصحابه واستملاك أزواجه للسيد نبيل الحسني: ص17 – 24.