علي بن موسى الرِّضا خليفة الرسول

مقالات وبحوث

علي بن موسى الرِّضا خليفة الرسول

5K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 17-10-2020

عمَّار حسن الخزاعي

لم يرحل الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى عالم الآخرة حتَّى رسم الطريق المستقيم لمن أراد أن يستقيم، فأوصى بمن تختصُّ الهداية بهم بعده، وبمن يتولَّى بيان الدِّين للأمَّة بعد رحيله، معلنًا ذلك بحوادث شتَّى وبأساليب متنوِّعة، لا يمكن إلَّا التسليم لها والإذعان إليها، وكانت وصاياه تدور حول التمسُّك بالقرآن الكريم وبفئةٍ من النَّاس مهمَّتها تدور حول حفظ الدِّين ورعايته واتمام مسيرة الرسول في بسط الإسلام والدعوة إليه، وإرشاد النَّاس إلى ما ينفعهم لخير دنياهم وصلاح آخرتهم، وهذه الفئة هي أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام)، الذين بهم تنحصر الهداية وبهم يعتصم العباد من الضَّلال، وقد جاء ذلك بنصوصٍ كثيرةٍ أجمعت عليها مدونات المسلمين، ومن ذلك قول السول (صلى الله عليه وآله): ((إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي))([1])، وأخبرهم بـ ((أَنَّهُمَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ))([2])، وفي حادثةٍ أُخرى أنَّه قال: ((إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الْآخَرِ: كِتَابُ اللَّهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَالْآخَرُ عِتْرَتِي: أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا))([3])، وفي حديثٍ صحيح يُكرِّر الوصية بالقرآن والعترة ويؤكِّد التلازم بينهما في خطبته بغدير خم([4])، ثمَّ يكرِّر وصيته مؤكِّدًا عليها في آخر خطبةٍ له وهو مريض فيقول: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ، إِنَّهُ لَنْ تَعْمَى أَبْصَارُكُمْ، وَلَنْ تَضِلَّ قُلُوبُكُمْ، وَلَنْ تَزِلَّ أَقْدَامُكُمْ، وَلَنْ تَقْصُرَ أَيْدِيكُمْ، كِتَابُ اللَّهِ سَبَبٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، طَرَفُهُ بِيَدِهِ وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَاعْمَلُوا بِمُحْكَمِهِ، وَآمِنُوا بِمُتَشَابِهِهِ، وَأَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، أَلَا وَأَهْلُ بَيْتِي وَعِتْرَتِي، وَهُوَ الثَّقَلُ الْآخَرُ، فَلَا تَسُبُّوهُمْ فَتَهْلِكُوا))([5]) .

وما إن رحل الرسول (صلى الله عليه وآله) حتَّى تآمرت القلوب المريضة والقلوب التي لم يدخلها الإيمان إلَّا ظاهرًا؛ فحاربوا أهل البيت (عليهم السلام)، وصاروا يتوارثون معاداتهم وقتلهم، بدءًا من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ثمَّ الحسن (عليه السلام) ثم الحسين إلى الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (عليهم السلام)، فكلٌّهم قد توازر عليهم أهل الدُّنيا وحاربوهم وأقصوهم عن حقوقهم، وغصبوهم المنازل التي جعلها الله تعالى لهم، ولم يتوقف ذلك عند أحدٍ منهم؛ بل شمل حتَّى الغائب الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فقد تربَّصوا به وأرادوا قتله وهو في بطن أمِّه ولكنَّ الله تعالى حفظه ليومٍ لا ريب فيه، اليوم الذي يظهر الدِّين فيه على الأرض كلَّها ولو كره المشركون .

وعلى ذلك فقد نُقضت وصيَّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله)؛ بل عملوا بضدِّها، ولو كان الرسول قد أوصاهم بقتل أهل بيته والتنكيل بهم لما زادوا على ما فعلوا بهم . والمحاربة لأهل البيت جاءت على صورٍ متعدِّدة، ولو سلَّطنا الضوء على ما نحن بصدده، وهو الإمام علي بن موسى الرِّضا (عليه السلام) الخليفة الثامن لرسول الله (صلى الله عليه وآله) من الخلفاء الاثني عشر، وقد تولى الإمامة بعد استشهاد أبيه الكاظم (عليه السلام) على يد هارون العبَّاسي بعد أن مكث في سجونه لسنين كثيرة، وكان الإمام الرضا (عليه السلام) يسكن المدينة المنوَّرة، وما إن تسلَّط المأمون العبَّاسي على مقاليد السُّلطة بعد أبيه الهالك هارون العبَّاسي حتَّى بدأ بما انتهى إليه أبيه وعمِّه من قبل في حربهم لآل بيت النبوَّة والإمامة، وأوَّل إجراء اتَّخذه بحقِ إمام عصره الرضا (عليه السلام) الأمر بنقله من المدينة إلى خراسان لعزله عن شيعته ومواليه ومحبِّيه، ثمَّ بعد ذلك أكرهه على ولاية العهد؛ ليلج عبر ذلك إلى دسيسةٍ إعلاميَّة مفادها أنَّ الإمام يبغي السُّلطة والحكم والمنصب، ثمَّ بعد ذلك صار يرتِّب الأمور لإسقاط قدسيَّة الإمام في أعين النَّاس؛ ليسهل بعد ذلك التَّخلص منه، ومن تلك الإجراءات التي اتَّخذها المأمون العبَّاسي أن صار يجمع رؤساء الطوائف على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والعقديَّة ويختار المتقدِّمين منهم ويجمعهم مع الإمام للمناظرة، وقد حصلت جملة من المناظرات بتنظيمٍ من المأمون، وكان الإمام الرضا (عليه السلام) يخرج من جميعها بنصرٍ مؤزَّرٍ ينتهي بتسليم الخصم لحجَّته وبرهانه، ومن جملة المناظرات التي حدثت ما رواه الحسن بن محمد النوفلي بقوله: ((لمَّا قدم علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)، إلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل: الجاثليق ورأس الجالوت، ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر، وأصحاب زردهشت وقسطاس الرومي والمتكلمين؛ ليسمع كلامه وكلامهم، فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم المأمون باجتماعهم، فقال: أدخلهم عليَّ، ففعل، فرحب بهم المأمون، ثم قال لهم: إنِّي إنَّما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمي هذا المدني القادم علي، فإذا كان بكرة فاغدوا عليَّ ولا يتخلف منكم أحد، فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكرون إن شاء الله . قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام) إذ دخل علينا ياسر الخادم، وكان يتولى أمر أبي الحسن (عليه السلام) فقال: يا سيدي إنَّ أمير المؤمنين يقرئك السلام فيقول: فداك أخوك إنَّه اجتمع إليَّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلمون من جميع الملل فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم، وإن كرهت كلامهم فلا تتجشم، وإن أحببت أن نصير إليك خفَّ ذلك علينا، فقال أبو الحسن (عليه السلام): أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت، وأنا صائر إليك بكرة إن شاء الله . قال الحسن بن محمد النوفلي: فلمَّا مضى ياسر التفت إلينا، ثم قال لي: يا نوفلي أنت عراقي ورقة العراقي غير غليظة فما عندك في جمع ابن عمك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟ فقل: جعلت فداك؛ يريد الامتحان ويحب أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس والله ما بني، فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء، وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر، وأصحاب المقالات والمتكلمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، وإن احتججت عليهم أن الله واحد قالوا: صحح وحدانيته، وإن قلت: إن محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول الله قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجته، ويغالطونه حتى يترك قوله، فاحذرهم جعلت فداك، قال: فتبسَّم (عليه السلام) ثم قال: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا علي حجتي؟ قلت: لا والله ما خفت عليك قط وإنِّي لأرجو أن يظفرك الله بهم إن شاء الله، فقال لي: يا نوفلي أتحب أن تعلم متى يندم المأمون، قلت: نعم، قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزبور بزبورهم، وعلى الصابئين بعبرانيتهم، وعلى الهرابذة بفارسيتهم، وعلى أهل الروم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم، فإذا قطعت كل صنف ودحضت حجته وترك مقالته ورجع إلى قولي علم المأمون أنَّ الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له، فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم))([6]) . وقد حاجج الإمام (عليه السلام) كلَّ الأصناف المتقدِّمة بالكتب والمفاهيم التي يؤمنوا بها، وانتصر عليهم كلَّهم في مناظرةٍ طويلة . ولكنَّ المأمون لم ينته؛ بل صار يهيِّئ لمناظرةٍ أُخرى علَّه يظفر بوهم خياله ويصل إلى هدفه الواهم، ولذلك قرَّر أن يجمع الإمام بأبرز متكلمي خراسان؛ بل المتقدِّم فيهم والمقدَّم عليهم، وذلك في روايةٍ ينقلها الحسن بن محمد النوفلي كذلك، وممَّا قال فيها: ((قدم سليمان المروزي متكلم خراسان على المأمون فأكرمه ووصله، ثمَّ قال له: إنَّ ابن عمي علي بن موسى قدم عليَّ من الحجاز وهو يحب الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته، فقال سليمان: يا أمير المؤمنين؛ إنِّي أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعةٍ من بني هاشم فينتقص عند القوم إذا كلمني ولا يجوز الاستقصاء عليه، قال المأمون: إنَّما وجَّهت إليك لمعرفتي بقوتك وليس مرادي إلا أن تقطعه عن حجةٍ واحدة فقط: فقال سليمان: حسبك يا أمير المؤمنين؛ اجمع بيني وبينه وخلني وإياه وألزم، فوجَّه المأمون إلى الرضا (عليه السلام) فقال: إنَّه قدم علينا رجل من أهل مرو وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام، فإن خفَّ عليك أن تتجشَّم المصير إلينا فعلت، فنهض (عليه السلام) للوضوء، وقال لنا: تقدَّموني وعمران الصابئ معنا))([7]) .
وهنا كان المأمون يتمنَّى أن يصيب الإمام (عليه السلام) بمسألةٍ واحدةٍ فقط، من أجل أن يمضي بمخطَّطه الشيطاني؛ ولكنَّ الله يأبى إلَّا النصر لأوليائه، وقد خاب المأمون وانقلب سحره عليه، وصار صيت الإمام الرِّضا (عليه السلام) يشقُّ الآفاق طولًا وعرضًا بعد إن انتصر على جميع من جاء بهم المأمون من كلِّ الطوائف، وهنا خابت كلُّ آمال المأمون ولم يبقَ أمامه سوى الغدر والاغتيال؛ ليحمي سلطانه الزائف من الخليفة الشرعي الذي صارت مودَّته تعم قلوب المؤمنين، فدسَّ السُّمَّ له متَّبعًا طريقة من قبله، وهكذا يمضي الإمام الرِّضا (عليه السلام) مقتولًا مظلومًا شهيدًا، ويهلك من عاداه في جهنَّم خاسرًا الآخرة وبئس المصير...
السلام على الخليفة الثامن لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيًّا، ونسأل الله تعالى أن نكون ممَّن يتشرَّف بموالاته في الدُّنيا وبشفاعته في الآخرة إنَّه حميد مجيد..

الهوامش:
([1]) تفسير القمي: 2/345 ، الكشف والبيان عن تفسير القرآن: 9/186 ، التبيان في تفسير القرآن: 9/474 ، دَرْجُ الدُّرر في تَفِسيِر الآيِ والسُّوَر: 4/1587 .
([2]) مجمع البيان في تفسير القرآن: 7/267 ، تفسير جوامع الجوامع: 1/411 ، تفسير القرآن العظيم: 7/201 ، زبدة التفاسير: 2/90 ، البرهان في تفسير القرآن: 1/20 .
([3]) لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/4 ، تفسير القرآن العظيم: 7/203 ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور: 7/349 ، البرهان في تفسير القرآن: 1/23 – 24 .
([4]) ينظر: تفسير القرآن العظيم: 7/201 ، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: 11/368 ، الأساس في التفسير: 9/5101 .
([5]) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: 1/36 ، البحر المحيط في التفسير: 1/24 .
([6]) التوحيد، الشيخ الصدوق (ت: 381 هـ): 417 – 419 .
([7]) التوحيد، الشيخ الصدوق (ت: 381 هـ): 421 – 422 .

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2907 Seconds