بقلم: الشيخ مهدي المالكي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام):
«إنّما الناس عالم ومتعلّم وما سواهما فهمج»[1].
مع أنّ مفردة (الناس) نطلقها على جميع فئات المجتمع البشري المتحضّرة والوحشية، المتعلّمة والجاهلة، المؤمنة والكافرة، الصالحة والطالحة، إلاّ إنّ الإمام علي (عليه السلام) أطلقها هنا وخصّ بها (العلماء والمتعلمين)، ورأى إنّها لا تليق إلّا بهم، فهم وهم فقط من يستحق أن يُطلق عليه هذه الكلمة، وإطلاقها على غيرهم إنّما هو من باب المجاز والتسامح في التعبير. فمن لم يكن عالماً أو متعلّماً ليس جديراً بالدخول في زمرة (الناس)، لأنّه فاقد للحياة الإنسانية الحقيقية التي لا يمكن له أن يعيشها دون علم ٍ ومعرفةٍ وتفعيل لهذه المعرفة في حيثيات الحياة وتفاصيلها، ولذا نرى أنّ القرآن الكريم يصرّح في سورة الرحمن المباركة بأنّ من يستحق أن نطلق عليه لفظة (إنسان) هو المتأدب بآداب ومعارف القرآن، ولذا قال تعالى:
{الرَّحْمَـنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[2].
فقدّم سبحانه وتعالى (علّم القرآن) على (خلق الإنسان) مع أنّ مقتضى الترتيب الطبيعي أن (يُخلق الإنسان) ثم بعد ذلك (يتعلّم القرآن)، وفي هذا إشارة بليغة أنّ غير المتعلّم وغير المتأدب بمعارف القرآن لا يستحق أن نطلق عليه (إ نسان) إلّا على نحو التجوّز والمسامحة؛ ولذات السبب يصنّف الإمام الصادق (عليه السلام) الناس إلى ثلاث طوائف في قوله (عليه السلام):
«الناس ثلاثة: عالمٌ ومتعلّمٌ وغُثاء»[3].
فالإمام (عليه السلام) يشبّه المجتمع البشري بالنهر الممتلئ، فطبقة العلماء والمتعلمين هم أمواج وسيل هذا النهر، الأمواج المتحرّكة بوعي وانسجام وفي مسار مرسوم ٍ بدقةٍ وإتقان، الوعي الذي نمى وتعاظم في نفوسهم نتيجة علمهم ومعرفتهم بأنفسهم وبربّهم وبما يحيط بهم من موجودات. هذه الحركة الواعية هي التي يعوّل عليها لبناء عالم مليء بالسعادة والهناء وإعمار النفوس قبل الإعمار الخارجي لهذه الحياة. وأمّا سواهم فمنهم الجهلة وغير المتعلّمين بل الرافضين لكل ما يمكن أن يرفع جهلهم ويبصّرهم دربهم فهم (غثاء) بتعبير الإمام (عليه السلام)، وهذا (الغثاء) ليست له قدرة ذاتيّة على التحرّك والسير والانتقال إلّا بحركة الأمواج وسيل الماء، بل أكثر من ذلك، فهذا الغثاء وما يحتويه من أحجار وأعشاب وأوساخ متجمّعة قد تتّحد محاولةً سد الطريق أمام حركة هذه الأمواج ومنع تدفقها وجريانها، لإنّهم يرون في هذه الأمواج عدوّاً لهم يجب إيقافه بالطرق والوسائل الممكنة ويؤكد الإمام علي (عليه السلام) هذا المعنى بقوله:
«الناس أعداء ما جهلوا»[4].
ولذا فعلى الإنسان أن يُدرك أنّ قيمته الحقيقية تكون بقدر حركته الواعية التي تنطلق من أرضية ما يمتلكه من علم، والذي يتحوّل في القنوات النفسية الصالحة والنقية إلى معرفة تملئ العالم بالخير والجمال والسعادة والاطمئنان.
فأهمية العلم تكمن في وصفه مقدمةً للمعرفة؛ ويشير الإمام علي (عليه السلام) إلى هذا المعنى بقوله:
«العلمُ أولُ دليلٍ، والمعرفة أخر نهاية»[5].
فالعلم لا قيمة ذاتية له، تكمن قيمته الحقيقية في كونه كذلك: فما لم تكن غاية العلم هي المعرفة التي يجب أن تنعكس على سلوكيات الإنسان وأفعاله الخارجية وأفكاره وتوجهاته، وتكون حاضرة في كل حركاته وسكناته فإن العلم سيكون وبالاً على صاحبه، ويكون حاجباً يحجزه عن معرفة نفسه ومعرفة ربّه؛ ويؤكد هذه الحقيقة الإمام علي (عليه السلام) في مواضع كثيرة، منها في كلام له مع كميل بن زياد النخعي (رضوان الله عليه) إذ يقول (عليه السلام):
«يا كميل، ما من حركة إلّا وأنت محتاج فيها إلى معرفة»[6].
وقوله (عليه السلام):
«غاية العلم الخوف من الله تعالى»[7].
وقوله (عليه السلام):
«علمٌ لا ينفع كدواء لا ينجع»[8].
وقوله (عليه السلام):
«العالم بلا عمل كالرامي بلا وتر»[9].
هذا هو السبب الرئيس في التأكيد الشديد والمستمر على أهمية العلم من قبل الديانات السماوية وتعاليم وتوصيات الأنبياء والأوصياء (عليه السلام) وجميع المصلحين والمفكرين على امتداد تاريخ البشرية. فأهميته تكمن في أنّه مقدم ومشروع معرفة، فالعلم الذي يكون في أوعية نفسية صالحة وقنوات ذهنية نظيفة ينقلب إلى معرفة، كما اتفق كثير من العلماء في العلوم الطبيعية والطب والفلك وغيرها من أقسام العلوم، فإنّهم عرفوا الله تعالى من خلال علومهم. وأمّا إذا وجد هذا العلم في قنوات ذهنية ونفسية ملوثة فإنه لا يُمكن أن يكون إلّا نقمة ًوعقوبةً عاجلة حلّت بحامل هذا العلم، وهذا المعنى نلاحظه كثيراً في عالمنا المعاصر، فكثيرٌ من الناس يعيشون في حالٍ مزر ٍ من الناحية المعرفية المؤثّرة في فهمهم لأنفسهم ولربّهم وللكون الواسع الذي يحتضنهم. على رغم من محاولاتهم لإخفاء هذا الجهل وراء واجهات وعنوانات لا ينخدع بها إلّا السذج من أنصاف الناس الذين تخدعهم العنوانات الوهمية والأقنعة الزائفة التي يرتديها هؤلاء الجهلة الذين يعتاشون على خداع أنفسهم وخداع الآخرين شاكلتهم؛ لأنهم يجهلون تماماً عدم واقعية علومهم وعدم فائدتها لهم، وأنّها النقم التي حلّت بهم وهي ليست من النعمة في شيء، لإنّ النعمة التي تقود إلى النقمة هي شر النقم؛ كما يصفها الإمام علي (عليه السلام) بقوله: «نعمة الجاهل كروضة في مزبلة»[10]([11]).
الهوامش:
[1] الغرر والدرر / 267.
[2] سورة الرحمن: الآيات 1-4.
[3] الكافي، ج1 ص34 (الغُثاء: ما يحمله السيّل من الزبد والوسخ والطفيليات والأحجار الراكدة وغيرها).
[4] نهج البلاغة / الحكمة 172.
[5] الغرر والدرر / 153.
[6] تُحف العقول / 171.
[7] الغرر والدرر / 222.
[8] الغرر والدرر / 220.
[9] قانون دستور معالم الحكم للقضاعي 30.
[10] نهج البلاغة / الكلمات القصار.
([11]) لمزيد من الاطلاع ينظر: سيكولوجية الصورة الذاتية، للشيخ مهدي المالكي، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص82-86.