بقلم: م. م. هدى ياسر سعدون
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
جاء في نهج البلاغة «روي أنّ شريح بن الحارث قاضي[1] أمير المؤمنين عليه السلام اشترى على عهده داراً بثمانين ديناراً، فبلغه عليه السلام ذلك، فاستدعى شريحاً، وقال له:
بلَغَنِي أَنَّكَ ابْتَعْتَ دَاراً بِثَمانِينَ دِينَاراً، وَكَتَبْتَ لَهَا كِتَاباً، وَأَشْهَدْتَ فِيهِ شُهُوداً.
فقال شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فنظر إليه عليه السلام نظر مغضب ثمّ قال له: يَا شُرَيْحُ، أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لاَ يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ، وَلاَ يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ، حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً، وَيُسْلِمَكَ إلَى قَبْرِكَ خَالِصاً. فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لاَ تَكُونُ ابْتَعْتَ هذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ، أَوْ نَقَدْتَ الَّثمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلاَلِكَ! فَإِذَا أَنْتَ قدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا وَدَارَ الاْخِرَةِ! أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتاباً عَلَى هذِهِ النُّسْخَةِ، فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هذِهِ الدَّارِ بِدِرْهَم فَمَا فَوْقُ والنسخة هذه: هذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ، مِنْ مَيِّت قَدْ أُزْعِجَ لِلرحِيلِ، اشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ، مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ، وَخِطَّةِ الْهَالِكِينَ، وَتَجْمَعُ هذِهِ الدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ: الْحَدُّ الاْوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الآفَاتِ، وَالْحَدُّ الثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْمُصِيباتِ، وَالْحَدُّ الثَّالِثُ يَنْتَهِي إلَى الْهَوَى الْمُرْدِي، وَالْحَدُّ الرَّابِعُ يَنْتَهِي إِلَى الشَّيْطَانِ الْمُغْوِي، وَفِيهِ يُشْرَعُ بَابُ هذِهِ الدَّارِ. اشْتَرَى هذَا الْمُغْتَرُّ بِالاْمَلِ، مِنْ هذَا الْمُزْعَجِ بِالاْجَلِ، هذِهِ الدَّارَ بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقَنَاعَةِ، وَالدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ وَالضَّرَاعَةِ، فَمَا أَدْرَكَ هذَا الْمُشْتَرِي فِيَما اشْتَرَى مِنْ دَرَك، فَعَلَى مُبَلْبِلِ أَجْسَامِ الْمُلُوكِ، وسَالِبِ نُفُوسِ الْجَبَابِرَةِ، وَمُزِيلِ مُلْكِ الْفَراعِنَةِ، مِثْلِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ، وَتُبَّع وَحِمْيَرَ، وَمَنْ جَمَعَ الْمَالَ عَلَى الْمَالِ فَأَكْثَرَ، وَمَنْ بَنَى وَشَيَّدَ، وَزَخْرَفَ وَنَجَّدَ، وَادَّخَرَ واعْتَقَدَ، وَنَظَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ، إِشْخَاصُهُمْ جَمِيعاً إِلَى مَوْقِفِ الْعَرْضِ وَالْحِسَابِ، وَمَوْضِعِ الثَّوَاب ِوَالْعِقَابِ، إذَا وَقَعَ الاَْمْرُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ»[2].
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}[3]».
وموضع الاستحسان من هذا الكلام كما يقول المعتزلي أمران – وإن كان كله حسنًا:
أحدهما: أنه عليه السلام نظر إليه نظرة مغضب، إنكارًا لابتياعه دارًا بثمانين دينارًا[4]. وهذا يدل على زهد شديد في الدنيا واستكثار للقليل منها، ونسبة هذا المشتري الى الإسراف وخوف من أن يكون ابتاعها. بمال حرام.
الثاني: أنه أملى عليه كتابًا زهديًا وعظيًا، مماثلًا لكتب الشروط التي تكتب في ابتياع الأملاك «هذا ما اشترى فلان...»[5]. فقد كان دور الإمام عليه السلام في تقديم النصح لقاضيه ليتلافى الأخطاء التي كاد أن يقع فيها.
ومثال آخر قال الشعبي: وجد علي عليه السلام درعه عند يهودي أو مع رجل نصراني فأقبل به الى القاضي شريح يخاصمه فلما جاء جلس الى جنب شريح وقال: يا شريح لو كان خصمي مسلمًا لما جلست إلا الى جنبه ولكنه نصراني وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كنتم وإياهم في طريق فاضطروهم الى مضائقة، ثم قال: هذا درعي لم أبع ولم أهب، فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي وما أمير المؤمنين بكاذب فالتفت شريح وقال: يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ فضحك علي عليه السلام وقال أصاب القاضي مالي ببينة فقضى شريح بها للنصراني فمشى النصراني خطوات ثم رجع وقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وأن هذه أحكام الأنبياء، الدرع والله يا أمير المؤمنين درعك اتبعت الجيش وأنت منطلق الى صفين فطرق من بعيرك الاورق[6]. فأخذته فقال له علي عليه السلام: أما إذا أسلمت فهي لك، وحمله على فرس[7]. تبين لنا من تلك الحادثة أمور إدارية كثيرة منها:
أراد الإمام عليه السلام أن يوضح للأمة الإسلامية من خلال وقوفه أمام القاضي [وهو الحاكم، فضلًا عن ذلك هو العالم بأمور القضاء] هو والخصم ولم يكن قد حدث هذا في تاريخ الأمة.
إنما أراد القول إن القضاء العادل يجب أن ينفذ حتى لو على الحاكم نفسه([8]).
الهوامش:
[1] أقره الإمام علي عليه السلام القضاء وسخط عليه مرة فطرده عن الكوفة ولم يعزله عن القضاء ثم رضي عنه وأعاده الى الكوفة فلم يزل قاضيًا ستين سنة، توفي 87هـ، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 14/253.
[2] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، (كتاب) (3)، 14/251.
[3] سورة غافر، (آية – 78).
[4] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 14/253.
[5] ابن أبي الحديد، 14/253.
[6] الأورق: إذا صار على لونه وبعير أورق: لونه لون الرقاد، الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة (ورق)، ص535.
[7]الباعوني، جواهر المطالب في مناقب آل الرسول صلى الله عليه وآله : 2/127؛ فيما جاءت عند العسقلاني وفيها بعض الاختلاف والزيادة: حيث ذكر أن القاضي شريح عندما طلب البينة من الإمام عليه السلام فدعا إليه قنبر والحسن فشهدوا له، فقال شريح: أما مولاك فنعم وأما شهادة ابنك فلا فقال... يُنظر: لسان الميزان، 2/342 – 343؛ ابن عساكر، تاريخ دمشق، 3/343.
([8]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الفكر الإداري عند الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة، هدى ياسر سعدون، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة، العتبة الحسينية المقدسة: ص199-202.