بقلم م. م. الشيخ محسن الخزاعي- جامعة الكوفة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين أساس الدين وعماد اليقين.
أما بعد:
رابعاً: مصاحبة القرآن الكريم والانسجام مع أهدافه
إنَّ التمثل بمعاني القرآن الكريم وترجمتها سلوكاً لهو خير وسيلة إلى الوصول إلى معانيه السامية واتخاذها قاعدة ينطلق منها الإنسان في حياته.
ولا يخفى على أحدٍ أنَّ مصاحبة الإنسان لصنعةٍ ما والعيش معها سوف تولد خبرةً وتماسكاً وتعشقاً من لدن ذلك الإنسان بصنعته، فما بالك بالقرآن الكريم الذي هو الناصح الذي لا يغش كما وصفه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حين قال:" "اعلموا أنَّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل والمحدث الذي لا يكذب وما جالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادة أو نقصان زيادة في هدى ونقصان من عمى واعلموا انَّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لأوائكم فإنَّ فيه شفاً من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والعمى والضلال فاسألوا اللّه به وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه إنَّه ما توجه العباد إلى اللّه بمثله واعلموا أنَّه شافع مُشفَّع وقائل مصدق وأنَّه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه فإنَّه ينادي مناد يوم القيامة ألا إنَّ كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثة القرآن فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواكم"([1]).
فانتظم ذلك الآداب التي لابد أنْ يتحلى بها المفسر، من آداب موضوعية وآداب نفسية، تتأتّى من خلال التخلق بأخلاق القرآن الكريم والعيش معه في السلوك والعمل، والانسجام مع أهدافه انسجاماً كاملاً.
فأنًّ من أراد أن يصل إلى مضامين القرآن الكريم فعليه أن يتخلق بأخلاقه، وأن يستنصحه، وينسجم مع أهدافه، فإنَّ القرآن الكريم لا يغش من استنصحه، ولا يحيد به الطريق ؛ لأنه خير هاد، لذا قال النبي الكرم عن القرآن الكريم: "... من جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار"([2]).
وقوله عليه السلام "المحدث الذي لا يكذب" يعني أنًّ أصدق الحديث هو حديث القرآن الكريم، إذ إنَّ من أراد استنطاق نصوصه على وفق ما رسمه هداه ومعلموه عليهم السلام فإنه الماحل المصدق كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "فإنه شافع مشفع وماحل مصدق"([3]).
وأما قوله عليه السلام "وما جالس هذا القرآن أحدٌ... " فأن هذه العبارة توحي أنَّ من جاء القرآن تلميذاً لا معلماً، مؤمنا ً لا منافقاً، ثم جالسه ورافقه فما يقوم عنه إلا بزيادة في هدى، وأي هدى أبلغ من الاهتداء إلى مضامين القرآن والوقوف على خبايا أسراره.
فمصاحبة القرآن والانسجام معه فيه دواء من أكبر الداء وهو النفاق والعجب، فينبغي على المفسر أن يتخلق بأخلاق القرآن الكريم، ويتوجه إليه وأن يقبل مشورته من دون مشورة نفسه، وهو قوله عليه السلام: "واستنصحوه على أنفسكم واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواكم" أي اقبلوا مشورة القرآن دون مشورة أنفسكم.([4])
فلا حرث أفضل من حرثه، لذا فقد حث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام على أن نكون من أتباعه ونستدله على ربنا ونستنصحه على أنفسنا.
ولكي يعطي الإمام عليه السلام على ذلك مثالاً قال: "وإنَّ الكتاب لمعي ما فارقته مذْ صحبته([5])".
فمعية القرآن الكريم تجعل الإنسان يعيش القرآن الكريم عيشاً عملياً، ليتكيف مع مناخات الوحي، ويقف على خصائص النص الشريف فيعرف حلاله وحرامه وناسخه ومنسوخه....، وهذا لا يحصل إلاّ من خلال مصاحبة القرآن والانسجام مع أهدافه التي في مقدمتها الاهداف التربوية التي تعد باباً من أبواب التفاعل مع هذا الكتاب الكريم الذي لا يفتح كنوزه بحق إلا لمن عاشه وعايشه معايشة فعلية لا معايشة ثقافية ولا فكرية فحسب.
فالمرء لا يستطيع بمجرد فهم ألفاظ القرآن وإدراك معاني جُمَله فقط أنْ يصل إلى إدراك التفاعل النفسي الذي ينطوي عليه رجال تعايشوا مع القرآن الكريم عندما تعاملوا مع هذا السفر الخاد.
فهناك أشواق وتذوقات وإشراقات وومضات ونفحات وفتوحات لا يتوصل إليها المرء بمعرفة الألفاظ والمعاني بل لابد له من أنْ يعيش في نور تلك التذوقات والومضات ولن يكون ذلك إلاّ بالإيمان العميق النامي والعمل الصالح والخلق الحسن([6]).
وفي هذا الصدد قال الشيخ محمد جواد مغنية:" اكتشفتُ من تفسيري للقرآن أنْ معانيه لا يدركها ولنْ يدركها على حقيقتها إلاّ المؤمن حقاً الذي اختلط الإيمان بدمه ولحمه.. وانسجم مع أهداف القرآن انسجاماً كاملاً، وهنا يكمن السر في قول الإمام أمير المؤمنين: ذلك القرآن الصامت، وأنا القرآن الناطق"([7]).
وعلى وفق هذا فقد ذم عليه السلام أُناساً عاشوا جهالاً وبين أيديهم القرآن الكريم، وهو المنبع الثر لكل المعارف التي تجعل من الإنسان إنساناً فاعلاً في محيطه، والسبب في ذلك أنَّهم لم يعيشوا القرآن الكريم على مستوى السلوك والعمل، إذْ إنَّ من لا رفقة له مع الكتاب لا رفقة له مع العلم([8]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة، 2/ 91.
[2]الكافي، الكليني، 2/ 599، باب تمثل القرآن وشفاعته لأهله.
[3]الكافي، الكليني، 2/ 599، الباب نفسه.
[4] شرح نهج البلاغة، أبن أبي الحديد، 10/ 20.
([5]) نهج البلاغة، 1/ 236.
([6]) ظ: بحوث في أصول التفسير، محمد لطفي الصباغ، طبعة: المكتب الإسلامي, ط /1، 1408هـ ـ1988م، 34، 35
([7]) التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، 1، 39.
[8]) لمزيد من الاطلاع ينظر: أثر نهج البلاغة في تفاسير الإمامية، الشيخ محسن الخزاعي، طبعة مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص97-102.