بقلم: أ. د. ختام راهي الحسناوي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام عل خير الخلق أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
تولى الإمام علي الخلافة سنة 35هـ/655م في أعقاب مقتل عثمان، ولم تنقطع الأصوات التي نادت بأفضليته وأهليته لشغل منصب الخلافة.
ومن ذلك قول عبد الرحمن بن حنبل[1] يحث على بيعة الإمام عليّ عليه السلام[2]:
((لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة
على الدين معروف العفاف موفقاً
عفيفاً على الفحشاء أبيض ماجداً
صدوقاً وللجبار قدماً مصدقاً
أبا حسن فارضوا به وتبايعوا
فليس كمن فيه لذي العيب منطقا
عليّ وصيّ المصطفى ووزيره
وأول مَنْ صلّى لذي العرش واتقى))
وفي هذه الأبيات نتبين أن التفضيل يقوم على أساسين:
النص: كما يظهر من عبارة (وصي المصطفى ووزيره).
المزايا الشخصية: (العفيف، الماجد، الصدوق، السابق إلى الإسلام، أول من صلّى، التقي، المبرء من العيوب).
وقد أسهمت ظروف الفتنة–التي أعقبت بيعة الإمام علي عليه السلام بقليل متمثلةً بخروج أصحاب الجمل (طلحة والزبير وعائشة) على خلافته، واستقلال معاوية بن أبي سفيان بالشام وعدم اعطاءه البيعة ومن ثمَّ الاشتباك معه بمعركة صفين، أسهمت كل هذه الظروف باستمرار الحاجة للمنافحة عن حق عليّ عليه السلام ، ونشر الأحاديث النبوية التي تُبرز خصائصه ومناقبه وتضعه في المكان المناسب في المجتمع الإسلامي.
فقد كان خروج أصحاب الجمل حركة كثيرة الخطورة لأنها تمثل حركة قرشية بزعامة اثنين من كبار المهاجرين (طلحة والزبير)، وتحظى بتغطية معنوية من (عائشة)[3].
ويرى بعض الباحثين ((إن هذا الثالوث الرمزي... كان في مستطاعه أن يوازن [نسبياً] هيبة عليّ ونفوذه... وكان كافياً لهؤلاء الثلاثة أن يظهروا في مكان ما أمام نظر المسلمين لكي يهزوهم، ويجتذبوهم، ويحركوهم في الأعماق ولكي يكونوا قوة ضاربة بشكل سريع جداً))[4] هذا فضلاً عما يُثير شعار: (الطلب بدم عثمان المقتول ظلماً)، وما يستتبع ذلك من قتال بين المسلمين، من انقسامات على الخليفة الشرعي الإمام علي عليه السلام.
وعندما عزم الإمام علي عليه السلام على الخروج لملاقاة معارضيه في البصرة اشتد الأمر على أهل المدينة، فتثاقلوا عن نصرته، والوقوف معه والوفاء ببيعته، والسير لملاقاة عدوه، وكان ذلك بتأثير أجواء الشك والتردد، والخوف من الإقدام على قتال أهل القبلة التي أثارها عدد من الصحابة البارزين[5].
وقد امتد تأثير هذه الأجواء إلى أمصار مهمة أخرى كالبصرة والكوفة[6]، فإذا كانت البصرة هي مقر معارضيه، فالكوفة هي المكان الذي عوّل الإمام عليه السلام على التمركز فيه سياسياً، والاستمداد منه عسكرياً[7]، فلا يمكن السكوت على ما وصل إلى سمعهِ من تخذيل أبي موسى الأشعري لأهلها عن نصرته بعد أن انحاز نفسياً إلى موقف الصحابة في الحجاز، وخوّف أهل الكوفة من الفتنة ودعاهم إلى اعتزال الأحداث[8]، وكان من إجراءات الإمام علي إزاء ذلك إرسال ابنه الإمام الحسن عليه السلام وعمار بن ياسر ومالك الأشتر إلى الكوفة لعزل أبي موسى عن ولايتها، وحث الناس على اللحاق به في البصرة، فخطب هؤلاء الأصحاب في أهل الكوفة، ووظّفوا التذكير بفضائل الإمام علي لتحشيد الناس، والنفاذ إلى عقلياتهم وعواطفهم، واستنفارهم لإمداد الإمام علي عليه السلام الذي عسكر بانتظارهم في ذي قار.
فصعد الإمام الحسن عليه السلام منبر الكوفة ثم ذكر جده فصلّى عليه، وذكر فضل أبيه وسابقته وقرابته برسول الله صلى الله عليه وآله وأنه أولى بالأمر من غيره فقال:
((أيها الناس إنا جئنا ندعوكم إلى الله وإلى كتابه وسنّة رسوله، وإلى أفقه مَن تفقّه من المسلمين، وأعدل مَنْ تعدلون، وأفضل مَنْ تفضلون، وأوفى مَن تبايعون. مَن لم يعيبه القرآن، ولم تجهله السُنّة، ولم تقعد به السابقة، إلى مَن قرّبه الله تعالى ورسوله، قرابتين: قرابة الدين، وقرابة الرحم. إلى مَن سبق الناس إلى كل مأثرة. إلى مَن كفى الله به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه، وهم متباعدون، وصلّى معه، وهم مشركون، وقاتل معه، وهم منهزمون، وبارز معه، وهم محجمون، وصدقه وهم يكذبون، إلى مَن لم ترد له ولا تكافأ له سابقة، وهو يسألكم النصر ويدعوكم إلى الحق، ويأمركم بالمسير إليه لتؤازروه...))[9].
فإن الجهاد معه كالجهاد مع النبي صلى الله عليه وآله[10]، وهو كما قال الحسن في خطبة أخرى باب هدى، فمن دخله اهتدى، ومَنْ خالفه تردّى[11].
وقام عمار بن ياسر خطيباً فذكر أن اختيار الإمام علي عليه السلام خليفةً وإماماً هو نعم الخيار لأنه ((فقيه لا يُعلّم، وصاحب بأسٍ لا يُنكر، وذو سابقة في الإسلام ليست لأحد من الناس غيره))[12].
بل إن عمار بن ياسر جعل نصيحته لأهل الكوفة في الجهاد مع الإمام عليj مبنية على أفضليته على الناس فقال: ((... واللهِ لو علمتُ أن على وجه الأرض بشراً أعلم بكتاب الله وسنة نبيه منه ما استنفرتكم إليه، ولا بايعته على الموت...))[13].[14].
الهوامش:
[1] الجمحي، كان أبوه من أهل اليمن، فسقط إلى مكة فولد له بها كلدة وعبد الرحمن، وهما من مسلمة الفتح، شهد عبد الرحمن فتح دمشق، كان شاعراً هجاءً، هجا عثمان بن عفان بأبيات لاذعة لما أعطى مروان بن الحكم خمسمائة ألف من خمس أفريقية فحبسه بخيبر، فكلم الإمام علي عثمان فأطلقه، وشهد عبد الرحمن مع الإمام علي الجمل وصفين وقتل بها. ابن عبد البر، الاستيعاب، 2/414–415؛ ابن حجر، الاصابة، 2/395.
[2] الشيخ المفيد، الفصول المختارة، ص270.
[3] بيضون، الحجاز والدولة الإسلامية، ص178.
[4] جعيط، الفتنة، ص147.
[5] منهم: سعد بن أبي وقاص، محمد بن مسلمة الأنصاري، أُسامة بن زيد بن حارثة، وهب بن صيفي الأنصاري. وقد نشر هؤلاء الصحابة، وغيرهم أحاديث عن النبي تحذر من الفتنة والوقوع فيها، وتبرر اتخاذهم الموقف السلبي من خليفة المسلمين، ورأوا السلامة في العزلة، وقالوا: ((إذا كان غزو الكفار قاتلنا، فأما قتال الفتنة والبغي فلا نقاتل أهل القبلة)).
الذهبي، دول الإسلام، 1/29، وللاطلاع على أحاديث الفتن التي تحث على القعود والاعتزال التي رواها عدد من الصحابة ينظر: البخاري، الصحيح، ص1252–1253؛ ابن ماجة، السنن، ص668–672؛ أبو داود، السنن، ص708–709؛ مسلم، الصحيح، ص1210–1211. ولمواقف الصحابة في المدينة من دعوة الإمام علي للقتال معه في البصرة ينظر: أبو مخنف، نصوص، 1/90؛ ابن سعد، الطبقات، 3/143، 244–245؛ ابن ماجة، السنن، ص672؛ البلاذري، أنساب الأشراف، 3/9؛ الدينوري، الأخبار الطوال، ص205؛ الترمذي، الجامع الصحيح، ص604؛ ابن أعثم، الفتوح، 2/442، 459–461.
[6] ينظر: ابن أبي طالب، نهج البلاغة، ص459–460 باب المختار من كتب أمير المؤمنين، ص583–584 كتاب رقم 63؛ أبو مخنف، نصوص، 1/122؛ البخاري، الصحيح، ص1253؛ ابن ماجة، السنن، ص672؛ أبو داود، السنن، ص708.
[7] ينظر لدواعي ذلك: الصغير، الإمام علي، ص275، جعفر، المشروع الاستراتيجي، ص132–136؛ الدوري، مقدمة في صدر الإسلام ص69.
[8] ومما جاء في خطابه إلى أهل الكوفة مشككاً ومخذلاً: ((فإنها فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب... فاغمدوا السيوف، وانصلوا الأسنة، وأقطعوا الأوتار...)) الطبري، تاريخ، 4/328.
[9] أبو مخنف، الجمل وصفين، ص135؛ ابن أبي الحديد، شرح النهج، 14/10.
[10] الشيخ المفيد، الجمل، ص263–264 وينظر: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، 1/86.
[11] الشيخ المفيد، الجمل، ص253.
[12] الشيخ المفيد، الجمل، ص254؛ ابن أبي الحديد، شرح النهج، 14/13.
[13] الشيخ المفيد، الجمل، ص263.
[14] لمزيد من الاطلاع ينظر: رواية فضائل الإمام علي عليه السلام والعوامل المؤثرة فيها (المراحل والتحديات)، الدكتورة ختام راهي الحسناوي، ص40-44.