الحلقة الرابعة - تقديمه (عليه السلام) النصح لهُ
بقلم: د. جليل منصور العريَّض – الجامعة الأولى/ تونس
الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطاهرين.
وبعد:
مما اسلفنا من مناقشات يمكن أن نخلص إلى فكر علي عليه السلام السياسي تجاه حكم عمر من خلال نصوص (نهج البلاغة)، فإذا كان علي عليه السلام قد تحدث عن غلظة عمر وخشونته فانه في الجانب الثاني قد قدم له من الاراء السياسية ما فيه دلالة على عمق نظرته لوقائع الأمور كما تنبئ عن اخلاصه وصدق اجتهاده في النصح، ففي النهج ثلاثة نصوص يمكننا اعتبارها في غاية الأهمية من الناحية السياسية:
الأول منها: في تبيان الصلاحية الشرعية التي تخول للحاكم استخدام الأموال الخاصة لتجهيز الجيوش الإسلامية، وتنطلق وجهة نظر علي عليه السلام في هذا الشأن من أحكام القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وآله في أحكام توزيع المال ووضعه في المواضع التي خصصها له الشرع «فلا يجوز التصرف في شيء من الأموال والمنافع الا باذن شرعي»[1]، وعلى هذا الأساس لما استشار عمر علياً عليه السلام في تجهيز جيوش المسلمين بما كان في الكعبة من حلي ومال، قال له «ان القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وآله والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض، والفيء فقسمه على مستحقيه، والخمس فوضعه حيث وضعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها، وكان حلي الكعبة فيها يومئذ، فتركه الله، ولم يتركه نسياناً، ولم يخف عليه مكاناً، فاقره حيث اقره الله ورسوله»[2]، فالقضية الأساسية التي من أجلها أراد عمر التصرف في حلي الكعبة سياسية، حيث أراد تجهيز جيوش المسلمين بتلك الأموال، ولكن علياً عليه السلام اعتبرها فرعية إزاء الحكم الشرعي، مما يعني من وجهة نظره عدم تجويز التصرف في أي ملك من ممتلكات الدولة الإسلامية الا في ظلال الشرع، وعلى ما نعتقد من خلال موقف علي عليه السلام ذاك إن «الفرق بين الشريعة والسياسة من وجهة نهايتهما ان نهاية السياسية هي الطاعة للشريعة»[3] لذلك فقد عمل عمر بمشورة علي عليه السلام دون غيره من المسلمين الذين أشاروا عليه بالتصرف، فترك حلي الكعبة على حاله قائلاً لعلي عليه السلام «لولاك لافتضحنا»[4].
أما النصّان الآخران فتتمحور الاستشارة في كليهما حول القيادة لجيوش الإسلام فحين أراد عمر ان يقود جيوش المسلمين لغزو الروم[5] وقتال الفرس[6] استشار علياً عليه السلام في ذلك، فأشار عليه في كلتا الحالتين ألا يخرج بنفسه ويكلف من ينوب عنه من أهل الخبرة والدراية بالحرب ويبعث معه من ذوي الرأي من رجال المسلمين ممن يعتمد عليهم وعلى ما يبدو فإن عمر قد أخذ بمشورة علي عليه السلام في حرب فارس [7] ألا انه لم ياخذ برأيه في حرب الشام[8].
فإذا ما اعتبرنا الاستشارة مجرد اختيار من حق المستشير قبولها أو رفضها فإن ذلك يجعل علياً عليه السلام لا يجد أية غضاضة في نفسه حين لم يعمل عمر بمشورته، بل بقي أمينا على عهده صادقاً في نصحه طيلة خلافته.
فمن خلال وقفة تأمل في النصوص التي أثرت عن علي عليه السلام في (نهج البلاغة) إبان حكم عمر نجدها تحمل في طياتها معاني التعاطف والتسامح المشبعين بروح إسلامية عميقة لا يشوبها زيف ولا يكدرها رياء، لأنها تعبير صادق عن عناصر الأصالة التي فاضت بها حنايا علي عليه السلام تجاه كل مخلص للإسلام، رغم معاناته وتألمه لحقه المضاع، ولكن تلك المعاناة الشخصية لم تكن لتؤثر على تصرفاته كوريث لحكمة النبي صلى الله عليه وآله وعمله في جعل الإسلام ورفعته هي الغاية، لذلك كان نصحه لعمر نابع من اقتناعه بضرورة تقديم المصلحة العليا للأمة الإسلامية على الخلاف الذي كان بينهم في سلب حقه، فكان يعطي النصيحة باخلاص إلا أنه بجانب ذلك الاخلاص، فقد حز في نفسه أن يرى حقه في الخلافة يؤول للمرة الثالثة ـ بعد عمر ـ لغيره، دون أدنى حق الا المفاضلة المبنية على العصبية التي مقتها الإسلام وفي هذا الصدد يقول: «وتولى عمر الأمر فكان مرضي السيرة ميمون النقية حتى إذا احتضر فقلت في نفسي لن يعدلها عني ليس بدافعها عني فجعلني سادس ستة فما كانوا لولاية أحد منهم كراهة لولايتي عليهم وكانوا يسمعون عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله لجاجة أبي بكر وأقول يا معشر قريش إنا أهل بيت أحق بهذا الأمر منكم»[9] فمن خلال علاقته بالستة الذين رشحهم عمرـ أثناء احتضاره ـ لاختيار واحد منهم لخلافته، يتحدد الاتجاه الذي انبنت عليه سياسة عمر في ذلك الاختيار فيما سمي في التاريخ الإسلامي بالشورى.
[10].
الهوامش:
[1] ابن أبي الحديد 19/278.
[2] حكم ـ 278.
[3] أفلاطون في الإسلام ص 200 بتحقيق عبد الرحمن بدوي.
[4] حكم ـ 278.
[5] راجع خطبة 134 وخطبة 146.
[6] المصدر السابق نفسه.
[7] بشأن موقف عمر من المشورتين راجع تاريخ الطبري 3/608، 4/125.
[8] المصدر السابق نفسه.
[9] ابن أبي الحديد: 6/96.
[10] لمزيد من الاطلاع ينظر: فكر الإمام علي عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة: للدكتور خليل منصور العريّض، ط: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة: ص 219 – 222.