بقلم السيد عبد الحسين الغريفي المشهدي
الحمد لله رب العالمين، ثم الصلاة والسلام على سيّد الخلق أجمعين سيدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى وعلى آله الطيبين الطاهرين، واللعن الدائم على اعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
وبعد:
قال عليه السلام:
فَتَدَاكُوا عَلَيَّ تَدَاكَ الْإِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وُرُدِهَا، قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا، وَخُلِعَتْ مَثَانِيهَا؛ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ، أَوْ بَعْضَهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ. وَقَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ، بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ (حَتَّىٰ مَنَعَنِي النَّومَ)، فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلَّا قِتَالَهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ، وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الْآخِرَةِ([1]) .
شرح الألفاظ الغريبة:
تداكوا: دكّ بعضهم بعضاً، أي دقه بالضرب والدفع([2]): الهيم: العطاش من الإبل: يوم ورودها: يوم شربها الماء: المثاني: - جمع المثناة بفتح الميم وكسرها - حبل من صوف أو شعر يُعقل به البعير([3]).
الشرح:
اعلم أن قوله: «فتتداكوا ...» إلى قوله: «لدي»: إشارة إلى صفة أصحابه بصفين لما طال منعه لهم من قتال أهل الشام؛ وكان عليه السلام يمنعهم من قتالهم الأمرين:
أحدهما: أنه كانت عادته في الحرب ذلك ليكون خصمه البادئ فتركه الحجة.
والثاني: أنه كان يستخلص وجه المصلحة في كيفية قتالهم لا على سبيل شكه في وجوب قتال من خالفه، فإنه عليه السلام كان مأموراً بذلك بل على وجه استخلاص الرأي الأصلح أو انتظاراً لانجذابهم إلى الحق ورجوعهم إلى طاعته لحقن دماء المسلمين كما سيصرح به في الفصل الذي يأتي.
ثم أكد وصفهم بالزحام عليه بأمرين:
أحدهما: تشبيهه بزحام الإبل العطاش حين يطلقها رعاتها من مثانيها يوم توردها الماء، ووجه الشبه مالهما من شدة الزحام.
الثاني: غاية ذلك الزحام وهو ظنه عليه السلام أن يقتلوه أو يقتل بعضهم بعضاً.
وقوله: «وقد قلبت هذا الأمر ....» إلى آخره: إشارة إلى بعض علل منعه لهم من القتال، وهو تقليبه لوجوه الآراء في قتالهم حتى تبين له ما يلزم في ترك القتال من الخطر وهو الكفر. على أن في الأمرين خطراً: أما القتال ففيه بذل نفسه للقتل وهلاك جملة من المسلمين؛ وأما تركه ففيه مخالفة أمر الله ورسوله المستلزمة للعقاب الأليم.
لكن قد علمت أن الدنيا لا قيمة لسعادتها ولا نسبة لشقاوتها إلى سعادة الآخرة وشقاوتها عند ذوي البصائر خصوصاً مثله عليه السلام فلذلك قال: فكانت معالجة القتال أهون على من معالجة العقاب، وموتات الدنيا أهون علي من موتات الآخرة، واستعار لفظ الموتات للأهوال والشدائد في الدنيا والآخرة لما بين الموت وبينها من المناسبة في الشدة([4]))([5]).
الهوامش:
([1]) نهج البلاغة لصبحي صالح: ۹۰ - ۹۱ خطبة رقم ٩٤، ونهج البلاغة للشيخ العطار: ١١٣/ من كلام له عليه السلام رقم ٥٣، وشرح نهج البلاغة لابن ميثم ٢: ١٤٣ - ١٤٤ / من كلام له عليه السلام رقم ٠٥٣ ونهج البلاغة للشيخ محمد عبده ۱: ۱۱۲ - ۱۱۳ / من خطبة له عليه السلام، وهو في نهج صبحي صالح ونهج محمد عبده من خطبة له).
([2]) شرح الألفاظ الغربية في شرح النهج لابن ميثم ٢: ١٤٤.
([3]) شرح الألفاظ الغربية في نهج صبحي صالح : ٥٨٢
([4]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2: 144/ شرح كلامه عليه السلام رقم 53.
([5]) لمزيد من الاطلاع ينظر: الدنيا في نهج الإمام علي عليه السلام: السيد عبد الحسين الغريفي، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ص 281-283.