من خصائص نهج البلاغة:   7- الشكوى

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من خصائص نهج البلاغة: 7- الشكوى

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 30-08-2021

بقلم: الدكتور علي الفتال رحمه الله تعالى

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أنني توفرت على خصائص ((النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها كلام علي عليه السلام فاكتفيت بالذي وجدت.
وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص

7- الشكوى:
اتسمت حياة الإمام علي عليه السلام - سيما بعد توليه أمر المسلمين - بالصخب والاضطراب والعسف ومجانبة الحق، وكان عليه السلام ينظر إلى من حوله، سواء في أيام السلم - وهي قليلة - وأيام الحرب - وهي مروعة - فيراهم منقسمين على أنفسهم؛ منهم من تمسك بالدين وارتضى الإمام قائداً بصدق وإخلاص ينطويان على نفس تطهرت بماء الإيمان وتعطرت بشذى السجية الفطرية المتسمة بالنقاء - وهؤلاء قلة منتقاة بعفوية إيمانية عجيبة.
ومنهم من تأخذهم رياح الأحداث يميناً وشمالاً وتدفعهم إلى الأمام مرة وتسحبهم إلى الخلف أخرى، حسب مقتضى الحال وتقلب الظروف والأحوال، تحكمهم مصالحهم لعدم تمكن الإيمان منهم؛ فهم طينة هشة تتشكل على وفق ما يراد لها أن تتشكل ولكنها كانت إلى زخرف الحياة أميَل فكانت تهتز لأقل نسمة فتميل إلى معسكر المكر والخديعة وتضعف أمام مختبرات غسل الأدمغة ويسيل لعابها لدسامة موائد مطابخ أولئك الذين يجيدون طبخ المغريات ويعرفون متى وكيف ولمن يقدمون تلك الوجبات التي من شأنها ملء الأمعاء وإفراغ والنفوس من الإيمان الصادق.
ومنهم من اتخذوا رسالة محمد بن عبد الله، الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلَّم سفينة نجاة لهم من خطر زوال (مجدهم) وسلطانهم قبل الدعوة الإسلامية، فصاروا يحاربون الدين ورجاله بالدين ورجاله معتمدين المكر والخداع منهجاً لهم فنجحوا في ذلك إلى حد ما، وإن كان نجاحهم مرهوناً بمرحلة وجودهم وما إن زالوا حتى عاد الإيمان والصدق والنقاء، إلى حيث أراد الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلَّم وأراد الوصي عليه السلام والأئمة من بعده.

تلك المفارقات جعلت الإمام علي عليه السلام يتشظى ألماً ويتحرق حسرة فيرسلها شكوى رجل خبر الحياة وسبر أغوارها واستقرأ النفس الإنسانية فعرف أسرارها فجاءت شكواه آية من آيات البلاغة وغاية من غايات المنهج التربوي القويم.
ونحن هنا سنختار بعضاً من تلك الزفرات النابعة من نفس مخظَّلة بصدق الإيمان، إنها شكوى علي بن أبي طالب عليه السلام كفى بذلك تعريفاً:
ففي خطبة له عليه السلام وهي المعروفة بـ (الشقشقية) قال:
((أما والله لقد تقمصها (أي: لبسها كالقميص) فلان وإنه ليعلم ان محلي منها محل القطب من الرحا، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إليَّ الطير، فسدلت (أي: أرخيت) دونها ثوباً، وطويت عنها كشحاً (أي: ملتعنها)، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذَّاء (أي: مقطوعة)، أو أصبر على طخية عمياء (أي: ظلمة)، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه!
فرأيت ان الصبر على هاتا أحجى (أي: ألزم) فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا (أي: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه) أرى تراثي (ميراثي) نهبا، حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى فلان بعده…

شتان ما يوحي على كورها ويوم حيان أخي جـابر
فيا عجباً!!بينما هو يستقيلها (أي يطلب إعفاءه منها) في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشدّ ما تشطر ضرعيها! فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كَلْمُها، ويخشن مسّها، ويكثر العثار (أي: الكبوة) فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة (من الإبل ما ليست بذلول)، إن أشنَق (أي: كف زمام البعير) لها حَزَمَ (قطع) وإن أسلس (أرخى) لها تقحَّم (هلك)، فجُني (ابتلوا) الناس - لعمر الله - بخبط (سير على غير هدى) وشِماس (إباء ظهر الفرس عن الركوب)، وتلوّن واعتراض (التخبط في السير)، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة؛ حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم اني أحدهم، فيا لله وللشورى! متى الريب فيََّ مع الأول منهم، حتى صرت اُقرن الى هذه النظائر، لكنّي أسففت (أي دنوت) إذ أسفّوا، وطرت اذا طاروا، فصفا (أي: مال) رجل منهم لضغنه (أي: لحقده)، ومال الآخر لصهره مع هنٍ وَهَنٍ (أي: أغراض أخرى) إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حِضنيه (أي: رافعاً أو متكبراً) بين نثيله (أي: روثه) ومعتلفه، وقاموا معه بنو أبيه يخضمون (أي: يأكلون الشيء الرطب) مال الله خِضمة الإبل نبتة الربيع إلى أن انتكث (أي: انتفض) عليه فَتْلُه، وأجهز (أي: تم قتله) عليه عَمَلُهُ وكبت به (أي: كبا) بطنته.
فما راعني إلاّ والناس كعُرف الضبع إليَّ ينثالون (أي: يتتابعون) عليَّ من كل جانب حتى لقد وُطِيءَ الحسنان، وشق عطفايَ (أي: خدش جانباه) مجتمعين حولي كربيضة الغنم (أي: الرابضة من الغنم)، فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى، وقسط (أي: جار) آخرون، كأنهم لم يسمعوا سبحانه يقول:
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (القصص/83)}.
بلى! والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زَبْرِجْها! أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يُقارُّوا (من الإقرار) على كِظّة (أي: استئثار) ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها (أي: كاهلها) ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنـز)).

ومن خطبة له عليه السلام بعد مقتل طلحة والزبير قا
((ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر، وأتوسمكم (أي: أتفرس فيكم) بحلية المُغْتَرِّين، حتى سترني عنكم جلباب الدين، وبَصَّرَنيكم صدق النية. أقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلَّة (أي: طريق فضل سالكها) حيث تلتقون ولا دليل، وتحتفرون ولا تُجبهون (أي: لا تجدون ماء). اليوم اُنطق لكم العجماء (أي: البهيمة) ذات البيان، عَزَبَ (أي: غاب) رأي امريء تخلف عني! ما شككت في الحق مُذ أُريته! لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه، بل أشفق من غلبة الجهّال ودول الظلال! اليوم تواقفنا (أي: تقابلنا) على سبيل الحق والباطل، من وثق بما لم يظمأ)).

ومن خطبة له عليه السلام يصف حاله قبل البيعة له:
((فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجا، وصبرت على أخذ الكظم (أي: الاختناق)، وعلى أمرّ من طعم العلقم. ولم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمناً، فلا ظفرت يد البائع، وخزيت أمانة المبتاع)).

ومن خطبة له عليه السلام بعد التحكيم قال:
((أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لوكان يطاع لقصير (أي: الأبرش) أمر! فأبيتم عليَّ إباء المخالفين الحفاة، والمنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه، وضنَّ الزند بقدحه، فكنت أنا وإياكم كما قال أخو هوازن، دريد بن الصمّة:
أمرتكم أمري بمنحرج اللوى فلم تستبينوا النصح إلاّ ضحى الغدِ
وفي خطبة له عليه السلام يشكو ظلم قريش:
((اللهم إني أستعديك (أي: أستعينك) على قريش ومن أعانهم، فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفؤوا إنائي (أي: قلبوه)، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا:
- ألا إن في الحق أن تأخذه، وفي الحق أن تمنعه، فاصبر مغموماً، أومت متأسفاً.
فنظرت فإذا ليس رافد (أي: معين) ولا ذاب (أي: مدافع) ولا مساعد)).([1]).

الهوامش:
[1] لمزيد من الاطلاع ينظر: أضواء على نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية، د علي الفتال، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ج1، ص 277 - 282.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2899 Seconds