من خصائص نهج البلاغة: 9- العتاب

أثر نهج البلاغة في اللغة والادب

من خصائص نهج البلاغة: 9- العتاب

4K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 12-10-2021

بقلم: الدكتور علي الفتال

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أنني توفرت على خصائص ((النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها كلام علي عليه السلام فاكتفيت بالذي وجدت.
وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص
- العتاب
في عتابه على أهل البصرة، بعد وقعة الجمل، قال عليه السلام:
(أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء، خفّت عقولكم، وسفهت حلومكم، فأنتم غرض لنابل، وأكلةٌ لآكل، وفريسة لصائل).
ويعاتب قوماً فيقول عليه السلام:
((فإنكم لوقد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم (خفتم)، وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يطرح الحجاب!ولقد بُصِّرتم إن أبصرتم، وأُسمِعتم إن سمعتم وهُديتُم إن اهتديتم، وبحقٍ أقول لكم:
لقد جاهدتم العٍبَر، وزجرتم بما فيه مزدجر، وما يبلِّغ عن الله بعد رسل السماء (الملائكة) إلا بشر)).
وبعد غارة الضحاك بن قيس صاحب معاوية على الحاج بعد قصة الحكمين قال عليه السلام يستنهض أصحابه لما حدث في الأطراف:
((أيها الناس، المجتمعة أبدانهم، والمختلفة أهواؤهم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم الأعداء! تقولون في المجالس: كيت وكيت، فإذا جاء القتال قلتم: حيدي حَيَاد! ما عزت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم، أعاليل بأضاليل، وسألتموني التطويل (أي: المطل) دفاع ذي الدين المطول (أي: الكثير المطل) لا يمنع الضيم الذليل! ولا يدرك الحق إلا بالجد! أي دار بعد داركم تمنعون، ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم - والله - بالسهم الأخيب، ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق (أي: مكسور الفوق) ناصل (أي: العاري عن النصل)، أصبحت - والله - لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم، ولا أوعد لعدوبكم، ما بالكم؟ ما دواؤكم، ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم، أقولاً بغير علم؟ وغفلة من غير ورع! وطمعاً في غير حق! ؟)).
وفي استنفار الناس إلى أهل الشام بعد فراغه من أمر الخوارج قال عليه السلام:
((أُفٍّ لكم! لقد سئمت عتابكم! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا؟ وبالذل من العز خلفاً؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، يرتج عليكم حواري فتمهون، وكأن قلوبكم مألوسة (أي: مجنونة) فأنتم لا تعقلون، ما أنتم لي بثقة سجيس (أبد) الليالي، وما أنتم بركن يُمال بكم ولا زوافر (أركان) عز يفتقر إليكم، ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر، لبئس - لعمر الله - سُعْرُ نار الحرب أنتم تُكادون ولا تكيدون، وتُنتقص أطرافكم فلا تمتعضون، لا يُنام عنكم وأنتم في غفلة ساهون، غُلب - والله - المتخاذلون! وأيم الله إني لأظن بكم أن لوحمى الوغى، واستحرَّ الموت، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس.
والله إن امرأً يمكِّن عدوه من نفسه يعرق لحمه ويهشم عظمه ويفري جلده، لعظيمٌ عجزه، ضعيف ما ضمّت عليه جوانح صدره، أنت فكن ذاك إن شئت! أما أنا فوالله دون أن أُعطى ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام، وتطيح السواعد والأقدام، ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء)).
وفي توبيخ بعض أصحابه بعتابية مرة قال عليه السلام:
((وكم أداريكم كما تدارى البكار العَمِدة، والثياب المتداعية، وكلما حيصت من جانب تهتكت من آخر، كلما أطل عليكم مُنْسِرٌ من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه، وانحجر انحجار الضبة في جحرها والضبع في وجارها، الذليل والله من نصرتموه! ومن رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل، إنكم - والله - لكثير في الباحات، قليل تحت الرايات، وإني لعالم بما يصلحكم، ويقيم أودكم. ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي، أضرع الله خدودكم (أي: أذلها)، وأتعس جدودكم! لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل، ولا تبطلون الباطل كابطالكم الحق)).
وفي ذم أهل العراق، وتوبيخهم على ترك القتال في ذروة النصر ونكذيبهم إياه قال عليه السلام:
[أما بعد يا أهل العراق، فإنما أنتم كالمرأة الحامل، حملت فلما أتمت أملصت ومات قيـّمها وطال تأيـُّمها، وورثها أبعدُها، أما والله ما أتيتكم اختباراً؛ ولكن جئت إليكم سوقاً، ولقد بلغني أنكم تقولون: عليٌّ يكذب، قاتلكم الله تعالى! فعلى من أكذب؟ على الله؟ فأنا أول من آمن به، أم على نبيـِّه؟ فأنا أول من صدَّقه، كلا والله، لكنها لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا من أهلها، ويل أمهِ كيلاً بغير ثمن، لوكان له وعاءٌ (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)].
وفي توبيخ البخلاء بالمال والنفس قال عليه السلام:
((فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها. تكرمون (أي: تفرون) بالله على عباده، ولا تكرمون الله في عباده، فاعتبروا بنـزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن وصل إخوانكم)).
وقام إليه عليه السلام رجل من أصحابه بعد ليلة الهرير في صفين فقال:
- نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندرِ أي الأمرين أرشد؟
فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى وقال:
((هذا جزاء من ترك العقدة (أي: التعاقد)، أما والله لوأني حين أمرتكم به حملتم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيراً، فإن استقمتم هديتكم وإن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقى، ولكن بمن؟ وإلى من؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي. كناقش الشوكة بالشوكة، وهويعلم ان ضلعها (أي: تيلها) معها، اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدويّ (أي: المؤلم)، وكلّت النـزعة بأشطان الركيّ (أي: حبل البئر)، أين القوم الذين دُعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرؤوا القرآن فأحكموه، وهِيجوا إلى الجهاد فولِهوا وَلَهُ اللقاح إلى أولادها، وسلبوا السيوف أغمادها، وأخذوا بأطراف الأرض زحفاً زحفاً، وصفاً صفاً، بعض هلك وبعض نجا. لا يبشرون بالأحياء ولا يعزَّون عن الموتى، مُرْهُ العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام.. أولئك إخواني الذاهبون.. إن الشيطان يريد أن يحل دينكم عقدة عقدة، ويعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة. فاصدّقوا عن نزعاته ونفثاته، واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم، واعقلوها عن أنفسكم))([1]).

الهوامش:
[1] لمزيد من الاطلاع ينظر: أضواء على نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية، د. علي الفتال، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ج1، ص 291 - 295.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.2656 Seconds